اقرأ أيضاً

الجمعة، 21 ديسمبر 2018

هل كان نظام الأسد ضحيّة الثورة السوريّة أم صانعها؟


سأسرد في هذا  المقال 10 نقاط (على سبيل المثال وليس الحصر) أستعرض من خلالها ما أسميته المقدّمة "السلوك المحيّر لنظام الأسد" ذلك السلوك الذي علّله الإعلام ببساطة بأنّه ناجم عن الغباء والوحشية. في هذه الحقائق أريد الخلوص إلى أنّ نظام الأسد لم يكن ببساطة "ذلك النظام الفاسد الذي كان خائفاً من الثورة وعمل بجدّ على تجنّبها، وحين اندلعت بدأ بقتل المحتجّين عليه دون هوادة". بدلاً من ذلك، تدلّ النقاط العشر التي سأسردها بشكلّ بيّن أنّ نظام الأسد سعى عامداً لإشعال هذه الثورة بالشكل الذي اشتعلت به، وقدّم لها ما يلزم ليس اعتباراً من 2011 بل حتّى قبل  ذلك.  كما أنّه لم ينقطع عبر سنيّها لإبقائها مشتعلة وزيادة حدّة أوارها ومنع نارها من الخبو، كلّ ذلك بتناغم عجيب مع ما كان يقوم به  "أعدائه المفترضين" في نفس الفترة، أي محور تركيا والدول التي تصطفّ خلفها.






في الوقت الذي كان فيه آلاف المقاتلين الأجانب يتدفّقون عبر الحدود (ولا يزالون) ترافقهم أطنان الأسلحة والمساعدات المالية وشتّى أنواع الإمدادات، كان جيش النظام السوري (ولاحقاً القوات الجويّة الروسيّة) تعمل بكامل طاقتها على تدمير المدن السورية الواحدة تلو الأخرى.
لم تعترض هذه القوات في أيّ حالة تذكر المقاتلين القادمين أو قوافل الأسلحة التي لم تنقطع يوماً من الأيام، على الرغم من أنّها كانت تنتقل عبر الحدود التركيّة وغيرها من الحدود بسلاسة وشكل مرئي. هذا ينطبق أيضاً على حركة هذه القوات المعارضة داخل سوريّا، ففي يوم واحد انتقلت 100 دبّابة وآلية مصفّحة من سرمين إلى الرقّة للانضمام لقوّات داعش بعد أن انشقّ القائد حسّان عبود عن الجيش الحرّ وقرر مبايعة  تنظيم الدولة الإسلاميّة. لم يتمّ إزعاج هذا الرتل وغيره كثير أو حتّى تهديده أو رصده عبر رحلته في سهول (لا جبال فيها ولا أودية) ولمدّة مئات الكيلومترات. 
السؤال هنا ليس فقط لماذا لم يزعج النظام هذا الرتل، بل أيضاً من أين جاءت التطمينات لهذا الرتل أن يسير هذه الرحلة وهو مطمئنّ أن لن يتمّ إزعاجه لا من النظام ولا من أيّ قوّة إقليميّة أو عالميّة أخرى؟ لا سيّما أنّ المشهد تكرّر مرّات عديدة كيوم تحرير مدينة إدلب مثلاً كما سآتي على هذه الحالة في ما بعد.

2. بمجرد اندلاع المظاهرات ، أفرج النظام عن الآلاف من المعتقلين الذين كان قد تمّ احتجازهم سجني صيدنايا وتدمر. هؤلاء السجناء تمّ "طبخهم" على مدى سنوات (في بعض الحالات لعقود) قبل إطلاق سراحهم. هؤلاء السجناء شكّلوا معظم جسم المعارضة السياسيّة والعسكريّة سواء المتشدّدة كأحرار الشام وجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلاميّة، أو المعارضة السياسيّة في اسطنبول والخارج بشكل عام. 

3. النظام شجّع الحركات المسلّحة بشكل واضح وممنهج، الأمر الذي علّله الإعلام المعارض بأنّه "خوف من السلميّة وسعي لعسكرة الثورة" إلّا أنّ هذا الهدف كان يحتاجه النظام لسنة أو سنتين ثم يقمع الثورة المسلّحة كما فعل بعد سنوات طويلة، فلماذا استمرّت سياسة تسليح الثورة كل هذه السنوات؟ هذا السؤال لم يجب عنه الإعلام التقليدي. 

4. في بداية الثورة، حصل المحتجّون على كامل أسلحتهم من ضبّاط النظام السوري (في ما بدا وقتها صفقات من ضبّاط مرتشين وفاسدين). لكن أيّ شخص لديه حتى أدنى معرفة بالشأن السوري يعلم أنّه قبل عام 2011 ، لم يكن السوريّون - سواءً مدنيين أو ضبّاطاً- يجرؤون على إجراء مكالمة أو حتّى بيع سيجارة لشخص يقاتل الحكومة ناهيك عن بيع أسلحة. فعل من هذا القبيل - دون موافقة القيادة العليا وإذنها - يعني بالتأكيد أنّ فاعله سيكشف ذات يوم والنهاية المحتّمة اختفاءه وعائلته من الوجود، علماً أنّ كلّ الضباط الذين قاموا بعمليات البيع هذه يقيمون الآن في مناطق النظام ويعملون تحت إمرته وسلطته حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يحاسبهم أحد. حين تبدأ حملة بيع بهذا الشكل فجأة بأسعار وظروف موحّدة، من قبل مئات الضبّاط  والنقاط العسكريّة على امتداد التراب السوري، المعذرة، لا يمكنني أن أسلّم أنّ ذلك كان مجرّد "تصرّفات فرديّة وصفقات فساد عرضية". هذه عملية منتظمة ، بموافقة كاملة من القيادة المركزية العليا لإدارة الأسد وبإشراف مباشر من استخباراته.


5. بعد بدء المظاهرات بوقت قصير، بدأت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ببثّ وتداول ما يسمّى "مقاطع فيديو مسرّبة". هذه المقاطع في غالبيّتها كانت تسرّب بشكل شبه يومي نقاط ومفارز نظام الأسد العسكرية والأمنيّة أو من السجون والضبّاط. المقاطع كانت تركّز على جوانب حسّاسة تثير عواطف السوريّين كإهانة مقدّساتهم، تعذيبهم، النيل من أعراضهم...  باختصار، كل ما يستفزّ السوريين (عموم المسلمين في جميع أنحاء العالم) لدرجة الجنون ولا يدع أيّ مجال لهم إلّا أن يثوروا على مرتكب هذه الأفعال. حتّى للمسلمين المتشدّدين حول العالم، شكّلت هذه المقاطع دعوة لهم كي يأتوا إلى سوريا "لنصرة إخوتهم والانتقام لشرف أخواتهم المسلمات".
النقطة المهمّة هنا هي أنّ تسريب مثل هذه المقاطع أو حتى صور  بهذه الصورة ظلّ مستحيلاً عبر عقود من حكم نظام الأسد! فهذه الممارسات لم تبدأ في 2011 بل ظلّت تحدث بشكل يومي في 14 محافظة سوريّة عبر عقود لكنّ تسريب صورة منها كان يعني نهاية محتومة لمسرّبها بأفظع الميتات التي يمكن تخيّلها. وعلى الرغم من أنّ مسؤولي الأسد وإعلامييه تظاهروا بإنكار هذه المقاطع أو التقليل من شأنها، بما يوحي أنّ تسريبها كان بخلاف إرادة نظام الأسد، إلا أنّ تدبّراً بسيطاً بالأمر يثبت عكس ذلك. فهذه المقاطع كانت تصوّر من قبل أفراد في قوات الأسد يمكن معرفتهم بسهولة (وليس بكاميرات مخفيّة مثلاً) وإيقاف تسريب مثل هذه المقاطع سهل جداً على نظام الأسد إن رغب بذلك، يعرف ذلك كلّ سوري، إلّا أنّ ما حدث هو عكس ذلك، فعدد المقاطع تضاعف كمّاً ونوعاً، ودرجة استفزازها كانت موجّهة ومدروسة لدفع عجلة الثورة قدماً وزيادة حدّة أوارها.

5. من المعروف أنّ النظام حرص على منذ بداية الثورة (بل حتّى قبل بدئها) على اعتقال وتعذيب وقتل النشطاء والمفكرين السلميين والأطفال والنساء والوجهاء في كلّ بلدة أو إهانتهم على العلن، ترافق ذلك مع غضّ النظر عن تسلّح العناصر المسلّحة بل وإطلاق سراحها حتّى بعد القبض عليها.  وكما قلت، فقد علّل الإعلام المعارض هذه التصرّفات بأنّ غاية النظام منها هو عسكرة الثورة وإخراجها من طور السلميّة، لكنّ هذا الغرض جرى تحقيقه بحلول 2012 ومع ذلك استمرّ النظام بعدها 5 سنوات على الأقل باتّباع نفس الأسلوب، في الوقت الذي تعسكرت فيه الثورة بل وتأسلمت وتشدّدت، ولم يثن ذلك النظام عن وقف هذه الممارسات، ما يعني أنّ هناك هدفاً أبعد من مجرّد عسكرة الثورة  وأسلمتها. 

6. تبنّت قوات جيش النظام وفروعه الأمنيّة سلوكًا مزدوجًا في  البلاد مقسّماً على أساس العرق أو الدين أو الطائفة أو مستوى المعيشة وكون المنطقة ريفيّة أو مركز المدينة. ففي حين أنّ بعض المناطق أريد لها أن تبقى موالية وتصرّف فيها عناصر الأسد كي تبقى كذلك، في حين تمّ إرسال "الشياطين" إلى مناطق أخرى كي يتصرّفوا بعنجهية تقود سكّان تلك المناطق للانتفاض دون هوادة. تمّ تنفيذ هذه الخطة بدقّة لدرجة أنّ السوريّين الذين عاشوا معًا لعدة عقود كأصدقاء وجيران انتهوا كغرباء لا يفهم أحدهم على الآخر ولا يصدّقه. كلّ فريق منهم تشبّث بإعلامه الذي تابعه في ما يهوى سماعه، وهو بطبيعة الحال مختلف تماماً عن ما يبثّه إعلام "الكوكب" الآخر.

7. النظام امتنع عن إظهار كامل قوّته في بدايات الثورة. بل إنّه تصنّع دور الضعيف والخائف. ما شجّع الناس على المضيّ قدماً ونبذ التردّد. بعد أن اقتنعوا بأنّه فعلاً على وشك السقوط كما دأب الإعلام المعارض على تأكيده على لسان الكثير من المستكتبين ومن منحتهم الشاشات منابرها فجأة كي يتحدّثوا عبرها على مدار الساعة. نظام الأسد كمّل مهمّة هؤلاء من خلال سلوكه المرتبك والغامض. لم يبدأ استخدام البطش بالبراميل المتفجرة والصواريخ والطائرات إلّا عندما تخطّت الثورة نقطة اللاعودة وأصبح من المستحيل على المعارضين حتّى التفكير بعقد صلح مع النظام.  

نقطة اللاعودة حلّت تحديداً حين: 
• حين أصبح المقاتلون الأجانب أقوى قوة على الأرض. أنشأوا ترساناتهم ومقرّاتهم المسلّحة، وبطريقة ما انفصلوا عن السكان المحليّين ، وباتوا يعاملونهم بغطرسة ولا يلقون إليهم بالاً. 
• وحين بلغ السوريّون مرحلة متقدّمة من التعاهد على المضيّ قدماً حتّى النهاية. هذا الالتزام لم يكن بهذه الدرجة من الوضوح في الأشهر الأولى للاحتجاج. إلّا أنّ الإعلام تكفّل في هذه الفترة بتكريس هذا الموقف إمّا بالثناء على الشهداء وتقريع من تسوّل له نفسه بالمصالحة على دمائهم. قبل ذلك كان الإعلام ومن خلال العديد من المسلسلات التي حازت شهرة هائلة قد هيّأ السوريين لتبنّي هذه المواقف من خلال شعارات مثل "الموت ولا المذلّة" و "لا تصالح" (الزيرسالم) أو "شكلين ما بحكي" (باب الحارة) إلخ.    
8. قام النظام بالسماح للمعارضة بالبقاء قريبة من مراكز المدينة دون التعرّض للنقاط التي كان يتمّ منها إطلاق قذائف بآليّات بدائيّة وبصورة شبه يوميّة. هناك رواية تقول أنّ هذه القذائف كان يطلقها النظام نفسه. وأيّاً كانت الرواية الصحيحة، فقد كان من السهل جداً على النظام أن يدمر النقاط التي أُطلقت منها هذه القذائف التي كانت تفتك وتزرع الرعب في سكّان المدن وكانت تركّز بشكل خاصّ على أحياء الأقلّيات كالمسيحيين وغيرهم. ظلّ هذا المشهد على هذا المنوال حتّى حين كان طيران الأسد وحليفه الروسي يقومان بآلاف الطلعات على بعد مئات الكيلومترات دون التعرّض لهذه النقاط التي تبعد عنهما مئات الأمتار فقط. 
اتّباع هذا النهج ضمن للنظام ولاء هؤلاء السكان والتصاقهم به  ضدّ المعارضة، وأصبحت كلمات مثل "الحرية" أبغض كلمة يمكن أن يسمعها السكّان لأنّها ارتبطت بأذهانهم بمعاناة ومآسي يوميّة تذكّرهم بمن فقدوهم من الأبرياء ومن أحبّتهم.

خلاصة:

ما أردت أن أخلص إليه عبر الاستعراض السابق، هو الحكاية السوريّة لا يمكن أن تختزل بـ"نظام فاسد خائف من الثورة وعمل بجد على تفاديها، ثم بدأ في قتل الناس على نطاق واسع وبوحشية عندما اندلعت"، وهو الشرح شبه الوحيد لما حدث ويحدث في سوريّا. فهذا النظام سعى عمداً لدفع هذه "الثورة" للبدء وأعطاها كلّ ما تحتاج ثمّ دأب على العمل بجدّ لإبقائها مشتعلة وضمان عدم خبو أوارها، كلّ ذلك بتناغم كامل وعمل مواز لما كان يقوم به المحور المقابل، أي محور تركيّا ومن وراءها، وهو ما سأفصّله في الفصل التالي. 
على أيّة حال، وبعد 8 سنوات من كل أنواع التحليلات والتنبّؤات، يبدو أن الأسد لم يكن يتصرّف على عواهنه، بل كان يعي ما يفعل، وأولئك الذين يوجّهونه للقيام بما قام به سواء كانوا مستشاريه أو أسياده وآمريه كانوا على دراية بما يقومون به. فالأسد ما زال "على سرج خيله" كما يقول التعبير السوري، والمسرحيّة بدأت عرض مشاهدها الأخيرة التي -على ما يبدو- مقتل الرئيس أو تركه للسلطة لن يكون ضمن مشاهدها، بل على العكس، يبدو أنّه يجري إعادة تأهيله داخليّاً ودوليّاً. وما حصل في السنوات الماضيّة ضاعف فقط ثروته وثروات عصابته ومرتزقته، بعد أن تخلّص ممّن وصفهم بالعناصر "غير المتجانسة" من شعبه الذي ما يزال ملتصقاً بالشاشات يتابع يوميّاً من دول اللجوء مفكّرين ومتحدّثين يحكون لهم حكايات عن سقوطه الذي أصبح "وشيكاً ومحتّماً".


أمّا الدول التي زعمت ومثّلت دور الساعي للإطاحة بهذا النظام، فقد ثبت أنّها لم تكن تنوي حقّاً فعل ذلك. لقد كانت مساعداتهم تهدف إلى بدء الاحتجاج، مع اتّخاذ كلّ الضمانات أن لا تفضي هذه الثورة إلى إسقاط النظام. وفي الوقت الذي بسّطت وسائل الإعلام مقتنعة الأمر على أنّه بضعة آلاف من الأخطاء التي ارتكبتها هذه الدول الساعية لإسقاط النظام، وعلّلت الفشل بأنّه نتيجة الحقائق التي "تفاجأت" بها استخبارات دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى والبلدان التي تتلقّى تعليمات مباشرة من هذه الدول كتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر وهلم جرا.) وكأنّ سياسيّي هذه الدول وأجهزة استخباراتها هواة في طور التدرّب مقابل نظام خبير وعريق في العمل السياسي والاستراتيجي.  وفي حين أنّ متابعي الإعلام التقليدي اقتنعوا بذلك، ليسامحني القارئ إن لم أستطع التسليم به بهذا البساطة، فلست مستعدًا من الناحية العقلية لأخذ نكات كهذه على محمل الجد، خاصّة إذا كانت هذه النكات تروى على مذبح ملايين الضحايا الذين نعاين مأساتهم صباح مساء. 


الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين

نعمل على توفيره بلغات أخرى








لمتابعة قناة خفايا السياسة الدوليّة:
على فيس بوك


على يوتيوب
 

الجمعة، 14 سبتمبر 2018

من يحكم سوريا


نالت سوريا استقلالها بانتهاء الانتداب الفرنسي في 17 آذار 1946.  عقب ذلك شهدت البلاد سلسلة متلاحقة من الانقلابات العسكرية.
كان أوّل انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديث بقيادة رئيس أركان الجيش السوري، حسني الزعيم، وأطاح بحكومة البلاد المنتخبة ديمقراطياً. هذا الانقلاب تم تصميمه وهندسته من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية السي آي إيه.
هاشم الأتاسي جاء إلى السلطة في عام 1949 عبر انقلاب قاده سامي الحناوي الذي تولى منصب الرئيس ليوم واحد. ولم يدم حكم الأتاسي طويلاً، فبعد سنة واحدة جاء انقلاب أديب الشيشكلي الأول.
في شباط 1954 ، أطاح انقلاب آخر بحكومة أديب الشيشكلي بعد أن بقي في السلطة ليوم واحد فقط.
 في عام 1961 ، قام انقلاب استعاد سوريّا كبلد مستقل بعد أن ظلّت 3 سنوات كإقليم شمالي من الجمهوريّة العربية المتحدة التي جمعت سوريا ومصر آنذاك.
انقلاب 1963 جاء بحزب البعث إلى السلطة وهو ما دأب النظام السوري على تسميته بثورة الثامن من آذار. هذا الانقلاب كان مستلهماً من انقلاب مماثل حصل في العراق قبل شهر واحد فقط وتمّ هندسته أيضاً من قبل الاستخبارات الأمريكيّة.

انقلاب عام 1966 وقع بعد أحداث 21-23 شباط والتي انتهت باستبدال حكومة البلاد على يد اللجنة العسكريّة والقيادة القطريّة لحزب البعث.



يقول تشارلز غلاس في كتابه "سوريا تحترق":
"لم يكن حكم سوريا سهلاً في يوم من الأيام، يشهد بذلك قادة الحملات العقابية من تيتوس إلى القائد العثماني الأخير. بعد عامين على بدء الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، قامت السفيرة الاسكتلندية هيلين كاميرون غوردون بجولة في البلاد ووصفت فيما بعد الظروف التي تعكّر كلّ حاكم أجنبي أو محلّي، فقد كتبت:
"سكانها يتكوّنون من عشرات الأجناس المختلفة، والأسوأ من ذلك، أكثر من ثلاثين طائفة دينية، وجميعم يغارون من بعضهم البعض ولا يثقون ببعضهم البعض."
مارك سايكس، لاحظ الأمر ذاته في كتابه "دار الإسلام" (1904):
"إن تعداد سكان سوريا غير متجانس إلى حد كبير، وهو تجمع للأجناس المختلفة على نطاق واسع في الدم، وفي العقيدة، وفي التقاليد. إن هذه الحكومة صعبة وخطيرة في آن واحد."

انقلاب حافظ الأسد في 13 نوفمبر 1970 هو كان الأخير في تاريخ سوريا الحديث وقد أسماه "الحركة التصحيحية".

لم يكن مجيء حافظ الأسد وبقائه في السلطة لعقود حالة استثنائيّة على المستوى الدولي. فقد شهدت العديد من البلدان هذا المشهد بالضبط، كالعراق وليبيا وفنزويلا والجزائر وكوريا الشمالية وغيرها... أي: بلد تعصف به انقلابات متوالية ثم يأتي ضابط ليلتصق بكرسي الحكم لعقود دون منازع.

هذا المشهد يطرح العديد من الأسئلة: كيف أمكن لهؤلاء الحكام العسكريين الاستيلاء على السلطة طيلة هذه العقود؟ هل استخدموا أساليب خاصة لإنهاء ظاهرة الانقلابات المتكرّرة؟
وكيف يمكننا أن نفسّر أنهم قد فعلوا ذلك تقريبا في نفس الحقبة؟ هل تعلّموا ببساطة من بعضهم البعض؟ أم أنّ هناك بعض الجهات الأعلى منهم قد زودتهم بوصفات موحّدة ومطوّرة لتحقيق ذلك؟

حسب تقرير أعدّته صحيفة النيوزويك:


"بعد هزيمة ناصر لدول الاستعمار القديم - بريطانيا وفرنسا - في أزمة السويس عام 1956 ، بدأت الأسلحة والأموال الروسية بالتدفّق إلى المنطقة. قام المهندسون السوفيات بتشييد سدّ النيل في أسوان، كما ساعدوا في بناء مدن حديثة في سوريا والعراق اللذين يحكمهما حزب البعث. في تلك الحقبة، درس جيل كامل من الضبّاط والأطبّاء والتقنيّين العرب في موسكو، بما في ذلك الرئيس المصري حسني مبارك وحفتر، والذين تلقوا التدريب في الاتحاد السوفيتي في السبعينيات بعد تخرّجهم من أكاديمية بنغازي العسكرية. ساهم ضبّاط الاستخبارات الروسيّة في بناء الأجهزة الأمنية في ليبيا والجزائر ومصر والعراق وسوريا بناءً على هيكليّة الاستخبارات السوفياتية. مدفوعة باللهفة لإيقاف تأثير الدومينو الشيوعي في الشرق الأوسط، ضخّت واشنطن بالكثير من الأموال. بذا أصبحت إسرائيل والمملكة العربية السعودية ومصر - بعد سقوط عبد الناصر- المتلقّين الرئيسييّن للمساعدات العسكرية الأمريكية. تركيا، عضو حلف الناتو منذ عام 1952، استضافت الطائرات والسفن الحربية الأمريكيّة، وكان الأكثر إثارةً للجدل، استضافتها لمنظومة صواريخ جوبيتر متوسطة المدى. […] كان حليف موسكو الرئيسي هو الزعيم الفلسطيني محمود عباس ، والذي حصل على درجة الدكتوراه من موسكو في السبعينيات. زعم باحثون إسرائيليون، نقلاً عن وثائق مفادها أن جهاز المخابرات الروسي الكي جي بي، أن عباس تم تجنيده من قبل جهاز الأمن السوفييتي تحت اسم "كروتوف". نفى المسؤولون الفلسطينيّون هذه المزاعم واعتبروها مجرّد إشاعات إسرائيلية. وسواءً كان عميلاً أو لا، فقد كان عباس "محبّاً للروس ساعياً لإرضائهم" كما يقول زياد أبو زيّاد ، الوزير والمفاوض الفلسطيني السابق. [...] بدأ عملاء موسكو في السقوط الواحد تلو الآخر. كان صدام حسين - الذي تلقى الدعم الأمريكي أحيانًا - أوّلَ الذاهبين. [...] ظلّت القاهرة لفترة طويلة شريكة عسكرية واستخباراتيّة ودبلوماسيّة أساسيّة لواشنطن. وبصفتها الجهة التي تتلقى ثاني أكبر قدر من المساعدات العسكريّة الأمريكية، واصلت مصر هذه الشراكة حتى عندما توترت العلاقات مع أوباما بعد انتزاع السيسي للسلطة في عام 2013. وفي الوقت الذي ظلت فيه العلاقات الوثيقة مع واشنطن مستمرة منذ ذلك الحين ، اعترفت مصر أيضًا بوجود جديد لموسكو عبر استضافة تدريبات جوية لروسيا في العام الماضي - أول ممارسة من هذا النوع في الكرملين في أفريقيا. وفي تشرين الثاني الماضي ، أشارت مصر إلى دعمها لبوتين من خلال كونها واحدة من أربع دول فقط دعمت قرار روسيا بشأن سوريا في الأمم المتحدة. من جهتها دفعت موسكو إلى رفع عقوبات الأمم المتحدة على ليبيا، حيث لا يزال حفتر، وهو حليف السيسي،  ينافس على مركز الرجل الأقوى في البلاد. حفتر قال للصحفيين بعد مؤتمره المصوّر في كانون الثاني على متن حاملة طائرات روسية " بوتين تعهّد بإلغاء العقوبات."

برأيي الشخصي، ومهما قيل عن قوة شخصيّة القادة ودهائهم، لم يكن لمعمر القذافي، حافظ الأسد، صدام حسين، فيدل كاسترو، هوغو تشافيز، عبد العزيز بوتفليقة وغيرهم أن ينجحوا بالبقاء آمنين اعتماداً على دهائهم المزعوم أو شخصياتهم القويّة وحسب.  
عائلة الأسد - على سبيل المثال - تنحدر من أصول غير عريقة ومن طائفة دينيّة مورس التمييز ضدّها عبر التاريخ. وفي مجتمع شديد العنصريّة كالمجتمع السوري، تنخفض فرصة عائلة كعائلة الأسد في حكم قريتها التي تسكن فيها إلى الصفر، ناهيك عن حكم  كامل البلاد وبصورة شبه ملكيّة .
استطاع هؤلاء القادة أن يحكموا بلدانهم بصورة شبه ملكيّة بفضل عمليّة معقّدة وتقنيات ذكيّة سأتناول بعضها بالشرح في الفصول التالية. هذه التقنيات تمتلكها وتحتكر أسرارها بضعة جهات دوليّة على سبيل الحصر ويتطلّب الوصول إليها سلسلة طويلة من العمليّات سأعرض لتاريخ تطوّرها في فصول لاحقة من هذا الكتاب. 

إنّ تأهيل قدرات الأجهزة الأمنية وغيرها من أسباب بقاء الحكم هو عمليّة مستمرّة تحتاج لتحديث مستمرّ وفقًا للمستجدّات الداخليّة والعالميّة وليست عمليّة تنجز لمرة واحدة وتنتهي. كما أنّ الراعي الدوليّ يضمن ليس فقط الاستقرار الداخلي للبلاد وحمايتها من الاضطرابات الداخليّة، بل أيضاً يؤمّن الحماية الدوليّة في مواجهة  أيّ إجراءات أمميّة كذلك. 
هذا يجعل بقاء الرئيس وزواله رهن هذه الجهات التي تحتكر أسباب بقائه وإزالته وعائلته من المكانة التي يحتلّونها، بل ومن الوجود وبأسرع مما يتخيّلون. ذلك أنّ جميع رجالات إدارات الأمن والمناصب الحسّاسة في الجيش والذين يضمنون بقاء النظام يتبعون للإدارات التي درّبتهم وأعطتهم أسرار قوتهم.  

الخطر في وضع كهذا يكمن في أنّ الرئيس يصبح مرتهنا بالكامل لـ"عرّابه" الذي يقدّم له هذه الآليات ويشرف على تحديثها وهو ما يضمن بقاء الرئيس في منصبه.  ففرصة الرئيس ومن حوله الاعتراض على أيّ تعليمات تأتي من "عرّابه" تكاد تكون معدومة.  


ولكن إذا كان  الكفيل الدولي قد تعهّد بحماية الرئيس وبقائه وعائلته في السلطة أو الثروة، فلماذا تفكّر هكذا عائلة حتّى في قول "لا" ، مهما كانت التعليمات الصادرة من تلك الجهات العليا غاية في الجنون والخطورة؟ 




الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية 

يتمّ العمل على توفيره بلغات أخرى

يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين




السبت، 1 سبتمبر 2018

وصفة الأسد للبقاء في السلطة


في هذا الفصل، سأستعرض بعض الأساليب التي استخدمها نظام الأسد والتي ضمنت بقائه في السلطة رغم صعوبة تحقيق ذلك من قبل أسلافه كما يخبر به تاريخ سوريّا الحديث.

أولاً: استنساخ الأجهزة الأمنيّة 

ورث حافظ الأسد عن أسلافه بعض الإدارات الأمنيّة، في حين قام باستنساخ إدارات جديدة لمضاعفة عددها. الإدارات الرئيسيّة التي كان لكلّ واحدة منها فرع في كلّ محافظة، ناهيك عن مفارز في المدن الكبرى هي:
• مديريّة المخابرات العامة (أمن الدولة) والتي تمّ إنشاؤها بعد أشهر قليلة من وصول حافظ الأسد إلى السلطة.
• المخابرات العسكرية والتي تأسّست عام 1969 حين كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع في ذلك الوقت. تعود جذور تأسيس هذه الإدارة إلى فترة الانتداب الفرنسي (1923-1943).
•" إدارة الأمن السياسي. وظيفتها المعلنة هي مراقبة أمارات الأنشطة السياسيّة المعارضة. يتداخل دورها إلى حد ما مع إدارة الأمن العام التي تعتبر وكالة الاستخبارات المدنية الرئيسيّة في البلاد. وللأخيرة أيضاً قسم أمني خارجي يعادل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالإضافة إلى شعبة فلسطين التي تشرف على أنشطة الجماعات الفلسطينيّة في سوريا ولبنان.
• "إدارة المخابرات الجوية، وهي مرتبطة بالاسم فقط بالقوات الجوية، إلّا أنّ دورها كأكبر وأقوى وكالة مخابرات في سوريا يتأتّى من حقيقة أنّ حافظ الأسد كان في يوم من الأيام قائداً للقوات الجوية قبل أن يجعل من جهاز المخابرات الجوية مكتب عمله الشخصي. قامت هذه الإدارة بدعم الكثير من العمليّات الإرهابيّة خارج سوريا، بالإضافة إلى عملها الاستخباراتي. "


قد يتوقّع كل قارئ أن يكون هناك نوع من توزيع الأدوار بين هذه المديريات، إلّا أنّ الأمر ليس بالضرورة كذلك. فجميع هذه المديريّات أعطي سلطات غير محدّدة لمراقبة ورصد كل ما يحدث والتحقيق فيه. على سبيل المثال ، لم يكن دور "شعبة فلسطين" مراقبة "أنشطة الجماعات الفلسطينية في سوريا ولبنان" وحسب. هذه الشعبة معروفة بأنّها أكثر مراكز التعذيب وحشيّة والتي قامت باعتقال وتعذيب آلاف السوريّين وغير السوريّين ممّن لم يكونوا بالضرورة على صلة بفلسطين أو لبنان. 
برأيي، الهدف من إستنساخ هذه المديريّات بمسمّيات مختلفة ووظيفة واحدة هو توظيف جهات متعددة ومنفصلة لمراقبة ليس فقط تحرّكات المواطنين والأجانب ونشاطاتهم، بل لتسليط هذه الإدارات لتراقب بعضها بعضاً وترصد أيّ تهديد محتمل لسلطة النظام.
كل ضابط أو مدير في هذه المديريات يمكن أن يصبح ضحيّة لتقارير يكتبها عنصر صغير في مديريّة أخرى. بهذه الطريقة ، تمكّن نظام الأسد من تقليل إمكانية حدوث أيّ انقلاب أو تمرد إلى ما يقارب الصفر. فكما أنّ هذه المديريّات أنشئت لإرهاب المواطنين، قامت أيضاً بإرهاب بعضها البعض. 




اختراق المعارضة أبكر ما يمكن

هذا هو التكتيك الثاني الذي طوّرته أجهزة الاستخبارات في العصر الحديث لاستكمال سيطرتها على الأمم، وهي خطوة متقدّمة عن الأساليب السابقة التي تكتفي بالمراقبة. في هذا التكتيك لا يتمّ الانتظار حتى تنشأ المعارضة ليتمّ مواجهتها، بل تتنبأ الأجهزة الأمنيّة بظهور الحركات وفقاً لحركة الشارع ومزاجه وتقوم باختراق الحركات المحتملة قبل حتّى أن تتشكّل. بعبارة أخرى: تصل قبلها. في كلّ حركة تمرّد أو معارضة محتملة، يجب أن يكون هناك عملاء من داخل الحركة نفسها، وفي أغلب الأحيان، هؤلاء العملاء المزدوجون يلعبون الدور الرئيس حتّى في تشكيل التمرّد وانطلاقته. عبر سنيّ الثورة السورية، ظهر للعلن الآلاف من هذه الحالة. بعضهم كانوا من قادة الحراك ومحرّكيه الرئيسيّين. 

في أكثر مراحلها تقدّماً، بدأت أجهزة الاستخبارات بإنشاء حركات وفصائل في موازاة الحركات التي قد تنشأ بشكل طبيعي. وعبر اصطناع العداء لهذه الحركات المصطنعة، تحظى هذه المعارضات بشرعية أكثر من نظيراتها. بهذه الطريقة تتمكّن أجهزة الاستخبارات من إضعاف المعارضات الحقيقيّة لصالح معارضات تصطنعها أو تخدم سياساتها حتّى لو كانت هذه المعارضة غير عالمة بخفايا اللعبة وتمارس دورها على سجيّتها. تقوم وسائل الإعلام التابعة للاستخبارات بتضخيم دور هذه المعارضة على حساب غيرها باصطناع دور العداء والخوف منها وإحاطتها بهالة، كما تقوم بإضعاف منافسيها عبر التقليل من أهميتهم أو صرف الأضواء عنهم أو طمس ذكرهم بالاعتقال أو الاغتيال. مؤدّى هذا التكتيك هو: نشوء معارضة أمر لا يمكن تفاديه، دعونا إذن نخلق معارضة نتحكّم بها، ونقلّل بها من شأن بقيّة الحركات التي نملك سيطرة أقلّ عليها أو لا يتّفق وجودها من أجنداتنا. 

هذه طريقة شائعة تطبقها تقريبا جميع وكالات الاستخبارات الدولية. خلال هذا الكتاب ، سأذكر في ثنايا الكتاب أمثلة كثيرة على هذه التقنيّة التي تمّ تطبيقها عدد غير محدود من المرات من قبل الاستخبارات السوريّة، العراقيّة، الخليجيّة والغربيّة.



غسيل الأدمغة

التقنية الثالثة التي أمّنت حكم آل الأسد وساعدته في تثبيت منظومتها الاستخبارات الأجنبيّة، لا سيّما الروسيّة هي إنشاء منظومة متكاملة تتحكّم بالعقل الواعي واللاواعي للجماهير وتهيمن على تفكيرها. لن أسهب في شرح ذلك لأنّ ذلك يحتاج لكتاب منفصل لكنّ كل من عاش في دولة تتبع المعسكر السوفييتي لديه فكرة عن الوسائل التي عمّمها الاتحاد على الدول التابعة له. 
كان النظام السوري هو المتحكّم الوحيد بمصادر الإعلام بكافة أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئيّة. صور "القائد الرمز" وأقواله "الملهمة" يجب أن تكون في كلّ مكان، على الجدران ، على الصفحة الأولى لكلّ كتاب مدرسيّ أو صحيفة يوميّة.  

وحشية النظام في أحداث حماة عام 1982 أمّنت عنصر الخوف المطلوب لإبقاء السوريّين بعيدين عن أيّ نشاط سياسي معارض. هذا التكتيك تمّ تطبيقه تقريباً في جميع الدول التابعة للإتحاد السوفياتي، أي: استخدام مفرط للقوّة بأحداث محدودة وفترة قصيرة تضمن ابتعاد الجماهير عن معارضة نظام الحكم لعقود. مقولات من قبيل "السياسة نجاسة" و "لا تقول كان، الحيطان لها آذان" تلخّص العقليّة التي نجحت أحداث حماة في زرعها في عقول السوريّين وحرص الآباء على تلقينها لأبنائهم منذ نعومة أظفارهم. فمن ذا الذي يودّ أن يختفي ابنه في غياهب سجن يتمنّى فيه الموت فلا يطاله؟ لذا بدا خيار تربية الأطفال على "حب الوطن وسيد الوطن" أسلم. 
بغضّ النظر عن عدد الضحايا في أحداث الثمانينات وما حدث بالضبط ومن كان القتلة، المهمّ أنّ الشائعات التي تمّ نشرها عن ما حدث أمّنت تدجين السوريّين أربعة عقود كاملة ومنهم من ما زال وما بدّلوا تبديلاً. 
الخذلان الدولي للشعوب سواء السوري أو حتّى اللبناني كرّس نظرة السوريّين وقناعتهم أنّ هذا النظام لا قاهر له بل لا حقيقة سواه. فالعالم الذي تواطأ مع هذا النظام ضد اللبنانيّين والمدنيّين السوريّين ضارباً بكلّ الاعتبارات الديمقراطيّة والحقوقيّة بل حتىّ الدينيّة والاستعماريّة عرض الحائط زاد في قناعة السوريين بأنّ هذا النظام ورأسه ليسوا من الإنس بل وحوش لا يمكن القضاء عليها وبدؤوا بالاقتناع أنّ عائلة الأسد مؤيّدة بقوى خفيّة وتحمل صفات تفوق ما يمتلكه البشر العاديّون.


حين جاءت ثورة الإنترنت والمستقبلات الفضائيّة والقنوات ومصادر المعلومات اللامحدودة كان الوقت متأخّراً جدّاً لاسترجاع ما ضاع من وعي الجماهير السوريّة. فبحلول عام 2003 كان الأسد قد حصل على جيل مغسول الدماغ بالكامل. ومهما كان أثر ثورة المعلومات عظيماً لم تستطع إصلاح ما أفسدته دهور الطغيان، فكيف إذا كانت هذه المصادر قد اختطفت من جهات مالأت الأسد ودعمت مركزه؟ حتّى حين أفلت جزء من الشعب من براثن التضليل، ظلّت الأغلبية ضحيّة ذلك التضليل إمّا مكرهة أو بطوعها لأنّها ألفت وضعاً وحياة لا ترغب في قلب موازينها. 
ومع ذلك، كان هناك شعور متزايد لدى الجهات التي تدعم الطغاة أنّ هناك ثقباً في الإناء وأنّ الأمور لا يمكن أن تبقى هكذا لمدّة طويلة. لذا لا بدّ من فعل شيء ما لتدارك التسريب وتعويض النقص، وهو ما قامت به فعلاً بعمليّة معقّدة أفضت إلى ما نراه اليوم، وهو ما سأشرحه في بقيّة فصول هذا الكتاب.


الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية 
يتمّ العمل على توفير بلغات أخرى 
يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين



الأحد، 5 أغسطس 2018

لماذا المأساة السورية مختلفة عن أيّ مأساة أخرى شهدتها الإنسانية



عندما أسمع كلمة "حرب"، يتبادر إلى ذهني بعض المشاهد المجيدة. الحرب قد تكون تلك المعارك التاريخية حيث يلتقي قادة وشباب مفتولي العضلات لاستعراض شجاعتهم ورجولتهم، وحيث يجتهد القادة لإظهار دهائهم وحنكتهم. معظمنا استمتع بمشاهدة أفلام عن هذه الحروب، وحكى للأطفال قصصاً عنها، محفّزاً إياهم أن يقتدوا بأبطالها. في هذا المعنى أجد كلمة "حرب" رومانسية للغاية عند محاولة وصف ما يحدث في سوريا. في هذه المأساة ، لم يتمّ استعراض أيّ مهارات سوى تدمير المستشفيات والمدارس فوق رؤوس المدنيين والأطفال وإحالتها إلى ركام وأشلاء. 
قادة الأطراف المتصارعة بالكاد التقوا وبالكاد خسروا. معظمهم خرج من الحرب بأمان بثروات فاحشة وأرصدة مكدّسة. في الوقت الذي هجّر فيه الملايين من المدنيين وخسروا، ليس فقط ما امتلكه جيلهم، بل ما ورثوه من الأجيال السابقة. لا يمكن إحصاء حالات التعذيب، لا يمكن حصر عدد الأطراف التي بترت والرؤوس التي قطعت والأعين التي فقئت.
لم تكن هذه الحرب مصمّمة للفوز بشيء ما. الحربّ صمّمت لانتاج أكثر المآسي عمقاً تاريخ البشرية.

ليس عدد الضحايا ما جعل هذه المأساة واحدة من أبشع الحروب في التاريخ، ففي التاريخ كان هناك حروب بلغ عدد ضحاياها أضعاف عدد ضحايا الحرب السوريّة. ما ميّز الحرب السورية  أنّها حدثت في وقت كان من المفترض فيه أن يكون العالم قد بلغ سنّ الرشد، وبعد أن أوجد أنظمة قانونية دولية ناضجة تشرف على تنفيذها حكومات ومنظمات تجعل حدوث مثل هذه الحرب غير ممكناً على كوكب الأرض. مجازر رواندا أو كوسوفو حدثت في وقت كانت الإنسانية في "غفوة". تغيّر الزمن  وأصبح المجتمع الدولي ناضجاً بأخلاقيّات واضحة بما يكفي لجعل مثل هذه الحالات موجودة فقط في كتب التاريخ. هذا على الأقل، ما اعتقده السوريّون (أو أنّ هناك من قادهم لهذا الاعتقاد؟).

المتظاهرون الذين خرجوا بالملايين إلى الشوارع محاولين إسقاط أحد أكثر الأنظمة فساداً وإجراماً في العالم كان لهم أسبابهم الكافية لفعل ذلك. كما أنّه كان لديهم أسباب كافية للامتناع عن هذه الخطوة مدّة عقود قبلها. السوريّون لم يكونوا جاهلين بمستوى أخلاقيّات نظامهم (أو بالأحرى -لا أخلاقيّاته- )، فقد خبروا وحشيّة هذا النظام وإجرام حلفائه اللا محدود منذ وقت طويل. كما أنهم لم يكونوا أغبياء ليخطؤوا حساب ترسانته العسكريّة القادرة على إفنائهم وتدمير سوريا بالكامل. خطوتهم هذه اتخذوها اعتماداً النضج المزعوم للمجتمع الدولي الذي تحدّثنا عنه. كما أنّ هذا القرار لم يكن قرارهم بالكامل، فقد تدخل في تعجيله وحرف مساره الكثير من الأحداث الموازية في الإعلام وعلى الأرض. من المهمّ جدًا أن نتذكّر هنا أن ثقة السوريين العمياء بنضج المجتمع الدولي لم تأت اعتباطاً. لقد تمّ العمل على تضليلهم بتقدير هذا النضج بشكل ممنهج ومدروس ومخطّط.  وهذه النقطة مهمة للغاية لفهم ما حدث بالضبط.
التصريحات الواضحة والوعود الممنهجة بعدم الخذلان التي أطلقها وكرّرها عبر سنيّ الأزمة رؤساء مثل أوباما وأردوغان والقادة الأوروبيين لم تكن عفويّة أو بالصدفة، لا سيّما أنّها ترافقت بعمل مكثّف على الأرض. إنّ تتبّع هذه التصريحات بشكل علمي يثبت أنّ هذا السلوك لم يكن بريئاً ولم يأت بشكل غير مقصود، سيّما أنّه أعيد وتكرّر عبر سنوات وتكفّلت بتكريسه أجهزة إعلام ووسائل دعاية سياسيّة ممنهجة. 


هل ما حدث إذاً كان "مؤامرة" ضد النظام السوري؟

هنا الجزء المحيّر من القصة: نظام الأسد كان جزءاً أساسيّاً من هذه "المؤامرة"، بل هو المنفّذ الرئيسي لها بدل أن يعمل على إحباطها أو تجنّبها. كلّ أفعال النظام وردود أفعاله قدّمت لهذه المؤامرة ما تحتاجه كي تمضي إلى نهايتها وتحقّق مهمّتها. 
الإعلام التقليدي دأب على تفسير سلوك الأسد هذا بأنّ سببه ببساطة "فاشية" هذا النظام و "ساديّته" و"غبائه السياسي". وهذا شرح يحقّ لكلّ شخص أن يصدّقه ويتبنّاه وهو ما لم أستطع فعله. فهذا التفسير ليس كافياً ولا منطقيّاً. فبشار الأسد ليس هو اللاعب الوحيد في هذه اللعبة ولا هو الدكتاتور المنفصل عن أيّ حلف أو قوّة أخرى حتّى يترك ليتصرّف كما تملي ساديّته. رواية كهذه يمكن أن تكون صالحة للعصور الوسطى. أمّا في عصرنا، عصر الأحلاف، فنظام مثل نظام الأسد مرتبط بأكثر منظّمات الاستخبارات قوة وخبرة في العالم ونظامه جزء من نظام دوليّ. أرباب هذا النظام لن يضعوا مصير إمبراطوريّتهم رهن غباء دكتاتور أو عنجهيّة أتباعه، مالم تكن هذه العنجهيّة موجّهة ومقصودة. إذاً، أنا أزعم أنّ كل هذا العنف والإجرام تمّ  بشكل مقصود. ولكن لأي غرض؟


هذا ما شرحته مفصّلاً في الكتاب وسأحاول شرحه في منشورات هذه المدوّنة.

الكتاب يحتوي على نوعين من المواد: الحقائق والنظريّة.
وبالطبع كلا المادّتين متصلتين ببعضهما ومشتّقتين من بعضهما البعض.

1. الوقائع الموصوفة في هذا الكتاب شهدتها بشكل شخصي. ومع ذلك، فقد حاولت قدر الإمكان الاستشهاد بمصادر خارجيّة لتدعيمها.
هناك معضلة تتعلق بالمراجع في زماننا: فالقرّاء يختلفون حين  يتعلق الأمر بالمصادر التي يصدّقونها أو يرفضونها. البعض يقبل بمصادر من وسائل الإعلام الغربية فقط، في حين يكذّب الآخرون كل خبر تورده هذه المصادر. إنّ إيراد كلّ أنواع المصادر سوف يضيف مئات الصفحات إلى الكتاب والمدون ويحشيهما فقط بمعلومات يمكن للمستخدم العادي الوصول إليها بسهولة عبر العديد من الوسائل. هنا أنا لا أطلب من القارئ أن يقبل شهادتي أو مصادري، بل أدعو القارئ أن يقف موقف المتشكك وتحرّي صحّة أي معلومات تبدو له مريبة (في الحرب السوريّة حصلت كثير من الأمور التي لا تصدّق). لحسن الحظّ أنّه في عصرنا أصبح من الميسور أن يبحث ويتحرّى المرء عن أيّ معلومة من مصادر دقيقة جدّاً. فالقارئ يمكن أن يستخدم الانترنت للبحث، ويمكنه التحدث إلى أشخاص على الأرض أو عايشوا الأحداث بشكل مباشر. 
2. أمّا الجزء النظري من الكتاب فهو محاولة شرح الجزء المتعلّق بالحقائق. هذا الجزء بني على الحقائق وجاء لاحقاً لها بعد أن أصبحت التفسيرات التقليديّة عاجزة عن شرح المعضلة السوريّة وغير كافية لأن تجيب عن كلّ أسئلتها وتناقضاتها.  
هنا أودّ أن أؤكد أنّني لست معجبا بأي نظرية من النظريّات المتداولة بما فيها ما يسمّى نظريّة المؤامرة. وقد دأبت (بين عامي 2011 و2013) على قبول الرواية التي اعتمدتها غالبيّة وسائل الإعلام لما يجري في سوريا أي أنّ ما يحدث هو ببساطة "ثورة حريّة ضد دكتاتور يحاول البقاء على كرسيّه بأيّ ثمن". أو في أفضل الحالات ، "صراع على النفوذ بين معسكر الغرب ومعسكر روسيا وإيران".
عند نقطة ما (في منتصف 2013 تحديداً) لم يعد أيّ من هذه الروايات صالحاً للإجابة عن جميع الأسئلة. كان من الممكن التغاضي عن ذلك وغضّ النظر عن التناقضات، والكثير بالفعل فقل ذلك، وتابعوا الرواية التي تتلى عليهم منذ ثمان  سنوات. وقد حاولت أن أحذوا حذوهم في ذلك، لكنّني فشلت. احترام المثقّف لعقله، صور الضحايا اليوميّة من الأطفال والأبرياء، واجب الإنسان العاقل في تحرّي الحقيقة والبحث عنها، كلّ ذلك لم يترك لي فرصة لإبقاء عيني مغلقة. كان علي أن أبحث أعمق وأعمق.

إذا كنت قد طلبت من القارئ أن يتحرّى أيّ حقيقة في الجزء المتعلق بسرد الحقائق، فسأطلب منه في الجزء المتعلّق بالنظرية  أكثر من ذلك: أن يسعى لنقض هذا التفسير ومناقضته لكن بشرط واحد: أن يبني مناقضته بعد التدقيق في الحقائق المسرودة وسأكون ممتنّا أي شرح أكثر منطقيّة للحقائق، شرط قراءة كامل الجزء المتعلّق بالحقائق أوّلاً قبل الركون إلى أيّ شرح مبسّط من الشروحات التي قدّمها الإعلام. 



***

في كتابه القيّم "تدمير وطن" يطرح السفير السابق الدكتور توماس فان دام السؤال التالي: هل كان يمكن تجنّب وقوع الحرب السوريّة؟
ويخلص إلى استنتاج بحسب رأيه هو، أنّه حتّى ولو أمكن تجنّب وقوعها في 2011 أو تأجيلها إلى حين، فلا بدّ أن تقع يوماً بسبب التناقضات وفساد النظام وعوامل أخرى. لكنّ السفير أغفل الحديث عن مقدار الخسائر والضرر في معرض الحديث عن السيناريوهات المحتملة. برأيي الشخصي أن السيناريو السوري كان أشبه ما سيكون بالسيناريو المصري، وهو بالمناسبة شبيه جداً بسيناريو الثمانينيات. ففي السيناريو المصري أمكن للنظام أن يسقط ويناور ثم يستعيد مركزه بعد عزل العناصر المتحمّسة للثورة وتصفية جزء منها بوحشيّة في ما سمّي مجزرة رابعة (حماة في حالة الثمانينيات السورية) ليعود بعدها النظام بعد ترنّح وبعض التوعّكات في الاقتصاد والجوانب التنظيميّة للبلاد. أنا هنا لست معجباً ببقاء الأنظمة أو بفشل الثورات. لكنّ الدول التي صنعت الفرق بين السيناريو المصري والسوري هي التي حالت دون سقوط النظام كما أنّها حالت دون انتهاء الأزمة بالصورة المصريّة. أي أنّ دورها اقتصر على حذف خيار عزل وتطويق الثورة بأقلّ الأضرار، فكان يعني إنهاء الثورة استئصال الشعب بأكمله لأنّ هذه الدول ضمنت فقط استشراء الثورة ووصولها خطّ اللارجعة لتقطع بعدها مساعداتها وتوقف زخم دعمها وتترك الشعب لوحده أمام نظامه الذي لا يتقن سوى لغة البطش والانتقام. 





الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين
نعمل على توفيره بلغات أخرى

الأربعاء، 1 أغسطس 2018

آلية عمل السياسة الدولية في العصر الحديث


تمهيد:

في الفضيحة المشهورة "إيران كونترا" "دخل مجلس الأمن القومي الأمريكي (NSC) في معاملات أسلحة سرية وأنشطة أخرى تم حظرها من قبل الكونغرس الأمريكي أو انتهكت السياسة العامة المعلنة للحكومة الأمريكيّة".
"كان من المخطّط أن تقوم إسرائيل بشحن أسلحة إلى إيران ، ومن ثم تعيد الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بهذه الأسلحة وتتلقى المدفوعات من إسرائيل".
رئيس الولايات المتحدّة في ذلك الوقت ، رونالد ريغان ، "أعطى الانطباع بأنه لا يعرف إلا القليل عما يجري". أجريت عدة تحقيقات، ولم يتم العثور على أيّ دليل على أن الرئيس ريغان نفسه كان على دراية بتفاصيل البرامج المتعددة.
"الأموال أرسلت أوّلاً إلى المملكة العربية السعودية". رجل الأعمال السعودي "عدنان خاشقجي كان وسيطًا مهمًا في صفقات الأسلحة وراء فضيحة إيران-كونترا".
حين نتأمّل في هذه القضيّة، يتبادر إلى الأذهان بعض الأسئلة والملاحظات المثيرة:
العلاقات بين اللاعبين الرئيسيين في هذه الفضيحة معقّدة للغاية. المسؤولون الإيرانيون يسمّون الولايات المتحدة  "الشيطان الأكبر" وإسرائيل "الشيطان الأصغر". التصريحات التي اعتاد الشعب الإيراني سماعها من مسؤولية هي من قبيل "يجب إبادة إسرائيل".  مشاعر الشعبين الإسرائيلي والأمريكي تجاه الإيرانيين ليست مختلفة كثيراً.
حين ننتقل للحديث نتحدث عن العلاقات السعودية - الإسرائيلية أو السعودية - الإيرانية ، يبدو المشهد كذلك معقّداً ومتداخلاً. 
كيف أمكن لهذه الدول أن تلتقي وتوقع اتفاقات حساسة في الوقت الذي تغرق شعوباً وحكومات في محيطات من الكراهية والحقد؟

هذه الحالة ليست فريدة، يمكن العثور على آلاف الحالات المشابهة حدثت وتحدث كلّ يوم على مسرح الأحداث الدوليّة. ما لم يتمّ افتضاح أمره هو الجزء الأكبر منها.
ما أردت استخلاصه من سوق هذا المثال الذي هو واحد من ألوف هو:

في معرض الحديث عن الأحداث الدولية ومحاولة تحليلها علينا أن نفرق بين 4 مستويات في كلّ دولة:
1. الشعب بوجه عامّ. الشعب يتكوّن في معظمه من أفراد عاديّين، لا يشاركون غالباً في اتّخاذ أي قرارات سياسيّة، ولكلّ شعب أخلاقيّاته ومصالحه وقيمه الخاصّة به. 
2. المستوى الثاني هو مستوى المسؤولين (مثل الوزراء ورؤساء الحكومات، كبار الموظّفين وصغار الضبّاط إلخ...). هذا المستوى موكّل برعاية مصالح الأمّة ككلّ والعمل على تحقيقها. على العموم، ليس بالضرورة أن تعكس أفعال هذا المستوى رؤية المستوى الأول، أي مستوى عموم الشعب ولا أن تراعي قيمه في كلّ تصرفاتها والأمثلة على ذلك عديدة. 
3. المستوى الثالث هو مستوى الأجهزة الأمنيّة والوحدات الخاصّة في الجيش. 
4. المستوى الرابع في قمّة الهرم يتكوّن من دائرة ضيّقة من قادة الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة. هذا الجزء دون غيره هو المسؤول عن أكثر القرارات حساسيّة، وهو مرتبط في كلّ دولة بشكل عضوي بمراكز قوى أخرى في البلاد مثل عمالقة القطاعات التجاريّة والمصرفيّة ووسائل الإعلام ...

غنيّ عن القول أنّ هذه المستويات غير منفصلة بل متداخلة. ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا هو أنّ مصالح وقيم وآراء كل مستوى ليست هي نفسها، وأنّ العلاقات بين الدول على كل مستوى من المستويات الأربعة المذكورة لا تعكس بالضرورة العلاقات على بقيّة المستويات. هذا يعني أنّه قد تكون لدى مواطني دولتين مشاعر سلميّة تجاه بعضهم البعض، في حين أنّ المستوى الثاني (أي مستوى السياسيّين) في حالة حرب. قد تكون الحرب مشتعلة بين دولتين على المستوى السياسي، في الوقت الذي يكون هناك تفاهمات مبطّنة غير معلنة على مستوى الأجهزة الأمنيّة والاستخبارات.
فقط حين نميّز بين هذه المستويات ونتوقّف عن فهم الأحداث بشكل إدماجي وجمعي لها يمكننا فهم ما يحدث الآن في سوريا وغيرها. 

عندما نقول: "الولايات المتّحدة غزت العراق" نقع في أكثر المطبّات التي تجعل فهمنا قاصراً عمّا يحدث. فقرار الغزو اتّخذته دائرة ضيّقة من صنّاع القرار الأمريكيّين، وقد استخدموا لتمريره  التضليل والالتفاف على الشعب الأمريكي. هذه الشريحة تعاونت  مع شريحة نظيرة لها من العراقيّين أنفسهم. ما حدث إذاً أنّ هذا الغزو كان جريمة ارتكبتها شريحة ضيّقة في أعلى الهرم من كلا البلدين ضد شعبي البلدين أي العراقي والأمريكي وهي جريمة تضمّنت الخداع والكذب والتضليل إلى جانب القتل والتدمير. فالقول بأنّ الأمريكان أعداء العراقيين خطأ فكري، وحقيقة الأمر أنّ هذه الشريحة الضيّقة (من كلا البلدين) هي عدوّة الشعبين الأمريكي والعراقي وهذان الشعبان هما ضحيّة تلك الشريحة من الساسة الأمريكيين والعراقيين الذين تواطؤوا في ما بينهم.  

هذا المطبّ الفكري مسؤول إلى حدّ كبير عن الحروب والمآسي في عصرنا الحالي، فهو الذي يضمن تضليل الشعوب بصورة تعجز عن اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب. كما أنّه يضمن استمرار استعباد هذه الشريحة الضيّقة في أعلى الهرم لسائر الشعب وتحكّمها في مصيره.
لقد أطنبت في هذا الشرح لأنّ تصحيح هذا الخطأ في التفكير هو الخطوة الأولى في طريق العثور على أمل بإنهاء موجة الحروب التي استعرت في السنوات الأخيرة والتي يبدو أن جشع أمراء الحرب لن يشبع قريباً من استنساخها لتكديس الثروات في أرصدتهم وأرصدة عصاباتهم ومرتزقتهم.

كيف ومتى نالت الأجهزة الأمنيّة مكانتها الاستثنائيّة هذه؟



الحربين العالميّتين أنشأتا ظروفاً رفعت من مكانة هذه الأجهزة حتّى جعلتهما المتصرّف الأوّل بقرارات الدول في فترة الحربين العالميّتين. حينها لم يكن هناك خيار آخر سوى تسليم هذه الأجهزة مقاليد الأمور، فقد كان الهمّ الوحيد للدول آنذاك هو كسب الحرب وهزيمة العدو. قامت الدول الكبرى بتسليم كامل مواردها لهذه الأجهزة ورصدت لها كلّ الإمكانيّات لتطوير عملها إلى الحدّ الأقصى.
هذه الفترة الذهبيّة مكّنت هذه الكيانات من تصميم وتطوير آليّات عمل استثنائية مكّنتها لاحقاً من الاحتفاظ بهذه المكانة الاستثنائيّة  بعد انتهاء هذه الحروب. هذه الآليّات تتأتّى بصورة أساسيّة من خبرات متراكمة وأبحاث طويلة الأمد في مجالات مراقبة الجماهير والتأثير عليها وتضليلها، إضافة إلى المهارات التنظيميّة التي تمتلكها هذه الأجهزة دون غيرها، والتي قامت استخبارات الدول الكبرى بنقلها لكيانات بعينها في دول العالم الثالث معطية هذه الكيانات نفس الخواص والقدرات من خلال تدريبها ونقل خلاصة خبرتها إليها ضمن شروط وقيود معيّنة. 
من خلال تطوّر متدرّج نشأ في ما بين هذه الأجهزة نظام تفاهم ولغة خاصّين بها. وهذا لا ينطبق فقط على الأجهزة الأمنيّة بل على قطاعات كثيرة في عصرنا الحديث كقطاع الأعمال مثلا. ففي حالة الشركات الصناعيّة الكبرى، ورغم أنّها من المفترض أنّها في حالة تنافس شديد، إلّا أنّ لغة ونظام تفاهم ضمني نشأ في ما بينها قاد إلى وضع مزيج بين التعاون والتنافس. لهذا السبب نحصل سنويّاً على إصدارات متشابهة من منتجات معيّنة من شركات المفترض أنّها تتنافس ولا تنسّق بينها مثل شركات السيّارات تويوتا  وهوندا، أو شركات الإلكترونيّات أبل وسامسونغ، أو حتّى المشروبات الغازيّة بيبسي وكوكا كولا.  
إذا كانت هذه الشركات حقّاً متنافسة، ما السرّ في أنّنا قلّما نحصل على منتجات مختلفة من هذه الشركات؟ وهل هي حقّاً في وضع تنافس أو شراكة؟ 

في الواقع، هي ما زالت في حالة تنافس على أشدّه، إلّا أنّها مع تراكم الخبرات وتعقّد عالم الأعمال إلى درجة مدمّرة (وهو ما ينطبق على الأجهزة الأمنيّة أيضاً) كلّ ذلك ساق هذه الشركات أن تقتنع بالتعاون أو التوحّد. ولكنّ التوحّد ضد من؟
ضد جمهور عملاء هذه الشركات.
البقاء في حالة تنافس على الطريقة التقليديّة سيؤدّي حتماً إلى تناقص أرباح هذه الشركات لصالح جمهور العملاء. أمّا التنسيق في ما بينها يجعلها في موقع متفوّق يضمن لها الربح على حساب هؤلاء العملاء. 
هذا المشهد يمكن إسقاطه على التطوّر الذي طال شكل عمل الأجهزة الأمنيّة حول العالم. لم تعد العلاقة (دولة ضد دولة أخرى) بل هذه الأجهزة أو المستويّات عليا طوّرت تفاهمات ضمنيّة أو صريحة بأن تنسّق في ما بينها كي تظلّ في موقعها المتفوّق على حساب بقيّة مكوّنات الشعب (أي المستويات الثلاثة الدنيا).


إزاء وضع كهذا، ينبغي البدء بتغيير طريقة فهم الأحداث وتحليها وهذه هي الخطوة الأولى في طريق السعي لإحداث تغيير يذكر. حتى عهد الحرب العالمية ، كانت القرارات الدولية الحاسمة وليدة أهواء وتصرّفات الحكّام. آنذاك كان أسباب الكوارث كلمات مثل: هتلر ، موسليني، وما إلى ذلك. في عصرنا لم تعد هذه الأسماء تفسّر كامل الحكاية. المشكلة لا تكمن في وجود أو عدم وجود بشار الأسد، بوتين ، ترامب إلخ ... تركيز الإعلام على أشخاص للإيحاء أنّ المشكلة في هؤلاء الأشخاص وأنّ الحل يكمن في التخلّص منهم ولا مشكلة بعدها. هذه الطريقة في الفهم هي مجرّد وهم وخدعة إعلاميّة، فهؤلاء الأشخاص إن اختفوا سيأتي غيرهم ممّن هم مثلهم. المسؤول الحقيقي عن استمرار الكوارث البشريّة هي كلمات من قبيل: التضليل الإعلامي، التحكّم بعقول الجماهير، أو إغراق هذه الجماهير بتفاصيل حتى تعمى عن رؤية ما يحدث بالضبط... وعليه، فإن الأمل في إنقاذ الإنسانيّة ممّا هي فيه لا يتأتّى من أحلام مثل: اغتيال هذا الطاغية أو الدعاء بموته (والذي حتّى ولو تمّ لن يغيّر شيئاً يذكر في المشهد) بل من حلول كـ: زيادة الوعي ، نشر الفهم  الصحيح والرؤية الصحيحة لما يحدث من حولنا.



بأيّ أدوات وآليات تتمكّن هذه الأجهزة من التحكّم بمصير شعوب بأكملها؟


أغبى ما في نظرية المؤامرة أنّها تزعم أنّ قلّة من الناس يمكنهم أن يقرّروا ويسيطروا على شعوب بأسرها، بل ويقرّرون سير الحياة في الكوكب لعقود قادمة. هل هؤلاء الرجال آلهة مثلاً حتّى يقولوا للشيء كن فيكون؟ 


عبر التاريخ، تحكّمت المجموعات البشرية التي تمتلك درجة متقدّمة من المعرفة بقيّة الشعوب التي امتلكت درجة أدنى من هذه المعرفة. الدول الصغيرة التي عرفت البارود واستخدمته قبل غيرها حكمت بقيّة قارات العالم بفضل هذه المعرفة. 

لكنّ عصر احتكار المعرفة انتهى وأصبحت المعلومات متاحة للجميع. صحيح؟
صحيح إذا كنّا نقارن بين أفراد أو منظّمات بحجم واحد. لكن حين تتراكم وتتكثّف معرفة في منظّمة واحدة يرصد لها موازنات هائلة وتتمتّع بخبرة تراكمت عبر عقود وجمّعت المعارف البشريّة التي تكوّنت عبر قرون لتحقيق هدف واحد. حين نقارن هذه المنظّمات مع الأفراد يختلف المشهد.
المعارف اللازمة لبناء الطائرات أو تصميم أنظمة تشغيل الأجهزة متاحة للجميع وغير محتكرة، لكنّ الأفراد والشركات الصغيرة لا يمكنهم مع ذلك بناء طائرات أو تصميم برامج تشغيل. لماذا؟ لأنّ إنجاز مثل هذه الأعمال يتطلّب مراكمة وتكثيف جهود آلاف الموظّفين والمعارف والخبرات في مشروع واحد لإنجاز مثل هذا العمل.
ولكن ما نوع المنتجات التي تنتجها منظمات مثل الأجهزة الأمنيّة في أعلى الهرم؟ 
هنا يكمن الجزء الخفي في الحكاية. ففي حين تسارع الشركات العاديّة مثل آبل ومرسيدس للإعلان عن منتجاتها حتى قبل إنتاجها. استثمرت منظّمات الاستخبارات العالميّة موازنات أضخم حتّى من موازنات هذه الشركات لإنتاج منتجات تعمل جاهدة لإخفائها.  هذه المنتجات، لو قدّر لها أن يكون لها أسماء لكانت أسماء من هذا القبيل: "كيفية مراقبة الجموع والتحكّم بها"، أو"كيفيّة التلاعب برأي الشعوب والتأثير بها" ومؤخّراً " كيفيّة صناعة الحروب والاستفادة منها".

هذا ليس عملاً يتمّ في يوم أو سنة، بل هو كما أسلفت عمل تراكمي يخضع لقانون "النشوء والارتقاء" التدريجي. فعلم محاولة التحكّم بالشعوب يعود لكتاب الأمير الذي كتب قبل 500 سنة أو حتّى قبل ذلك. لكن القفزة الأكبر كما قلت حدثت أثناء وبعد الحربين العالميّتين.


لماذا يصعب تصوّر وجود مثل هذه التركيبة للفرد العادي. 




الناس تميل إلى إسقاط كلّ ما تسمع على حياتها الخاصّة. فهم  بذا يصدرون الأحكام بناءً على تجاربهم هم، لا على تحليل واستقصاء أو بحث ودراسة. المثقّف يظنّ أنّ كلّ الناس مثقفة وواعية. وكذلك المخلصون أو اللصوص. هذه المنظمات تتعامل مع هذه الأمور بصورة مختلفة. هم يمتلكون أدوات المراقبة والتأثير ويواكبون تطوّراتها ساعة بساعة ويرصدون لذلك موازنات بلا حدود. 

الجماهير يمكن تصنيفها لفئات حسب تركيزها والهمّ الأكبر لها. فلدى كلّ شخص همّ أول في حياته تبنى كلّ قراراته على أساسه فمنهم من تصدر قراراته بناءً على نجاحه في مهنته، أو عائلته أو من إيمانه القومي أو الديني أو حتّى الرياضة والمواد الإباحيّة. المنظّمات ذات الهياكل بالغة التعقيد يمكنها التعامل مع هذه الفئات واستهدافها بناءً على اهتمامها وتوجّهها. كلّ ذلك بناءً على سوابق تاريخيّة عديدة وبالاستعانة بخبراء حجّة في مجالات علم نفس الجماهير أو التنظيم أو الإدارة إلخ .


السوريّون الذين ثاروا على نظام الأسد لم يكونوا يتوقّعون أن يدمّر الأسد البلد بأسرها وما زال يصطفّ خلفها ملايين المؤيّدين أو المتماهين مع نظامه ولا أن يظلّ في صفوف جيشه عشرات الآلاف من أبنائهم. ذلك كان نتيجة الوقوع في نفس الفخ الفكري الذي ذكرته آنفاً وهو "القياس على الذات والنظر إلى الأشياء من منظور الخبرة الشخصيّة لا غير. بالنسبة لنظام الأسد، هو كان يتعاطى مع المسألة من زاوية أخرى. فالأسد يؤازره علناً أعتى الأجهزة الأمنيّة العريقة في مجالها، أي الاستخبارات الروسيّة ذائعة الصيت في هذا المضمار، إضافة إلى ما تلقّاه من دعم جاءه من مصادر أصغر أو أخفى. يمكن عزو الاختلاف الهائل بين ما توقّعه الشعب السوري وبين ما حدث فعلاً لاحقاً بشكل كبير إلى هذه المفارقة بالذات.



السبب الثاني الذي يجعل من العسير على الفرد العادي التسليم بإمكانيّة وجود مثل هكذا لعبة أو حتّى مجرّد تصوّرها هو أنّ معظم الناس لا يتّبعون نفس المنطق في معرض مزاولة أعمالهم اليوميّة. فلكسب العيش يبحث الفرد العادي عن وظيفة بالطرق الاعتياديّة أو يبدأ استثماراً بعمل تجاري مألوف. ولكن كم نسبة الأفراد الذين يفكّرون بكسب عيشهم أو تطوير حياتهم بناءً على استثمار في إنشاء حرب أو تحكّم بجماهير؟ وكما قلت، حتى بالنسبة لهذه المنظمات في أعلى الهرب لم يكن حالها هذا نابعاً من قرار اتّخذته أو خيار اختارته، بل حدث ذلك عبر سلسلة معقّدة من التطوّرات المتأتّية أساسا من ظروف وأحداث خارجية وليس بقرار واعٍ منها وبعمليّة بطيئة امتدّت لعقود أو ربّما قرون.


اقرأ أيضاً:









الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين
نعمل على توفيره بلغات أخرى


الثلاثاء، 31 يوليو 2018

التناغم الروسي التركي في صناعة الأزمة السوريّة


القرائن التي بدأت تتكشّف مبكّراً وتزايد وضوحها مع تقدّم عمر الثورة السوريّة تشير إلى أنه ومنذ البداية كان هناك نوع من المحاورة بين روسيا وتركيا. هذه المحاورة أشبه ما تكون بـ"رقصة الموت" حيث يتظاهر الراقصون أنهم يعملون على قتل كلّ منهما الآخر ويجتهدون في ذلك، وكلّما كان هؤلاء الراقصون أكثر إجادة للرقصة كلّما دلّ على مدى التناغم والتقارب بينهم.
روسيا وتركيا حصلتا على نصيب الأسد من ثمار الحرب السورية كما سأفصّله تباعاً.  روسيا تخلّصت من مخزونها من الأسلحة منتهية الصلاحيّة المخزّنة منذ الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، إضافة إلى تحقيق مكاسب سياسيّة وسلطويّة سآتي على ذكرها. في حين لعبت تركيا دورا موازياً وحصلت على نفس القدر من مصادر مختلفة إلّا أنها مساوية في القيمة لما حقّقته روسيا. 


كيف صنع النظام التركي الأزمة السورية

على الرغم من أنّ الإعلام العربي كرّس نفسه لتلميع تركيّا وأردوغان تماماً كما كرّس هذا الإعلام نفسه من قبل لتلميع بشار الأسد وحسن نصر الله وما سمّي وقتها بحلف الممانعة، وقد قام بهذا الدور في التلميع نفس المحطات الإعلاميّة ونفس الأشخاص وبنفس التقنيات والأساليب. وعلى الرغم من أنّه نادرا ما كانت تذكر تركيا حتّى في الإعلام الغربي إلّا ك"بلد جار محايد بريء يحاول فقط أن يساعد" أو أنّه حتّى  "ضحيّة من ضحايا هذه الحرب" ، إلا أنّ الأزمة السوريّة لم تكن لتوجد وتصل إلى ما وصلت إليه لولا تركيّا[1].
بتناغم كامل مع ما كان يقوم به نظام الأسد، كمّلت تركيا الدور بصناعة الأزمة السورية وأدارتها حتّى هذا اليوم بأدوات وخطوات واضحة:

بدايةً قامت تركيّا بإرسال رسائل واضحة لا لبس فيها إلى السوريين (خاصّة للأغلبية السنّية) تحثّهم على المضيّ قدماً في ثورتهم ، واعدة إيّاهم أنّ الأمر بات مختلفاً عن أيّام الثمانينيّات. هذه الوعود لم تكون وليدة الصدفة بل جرى تكرارها عبر سنوات، وتكفّل الإعلام الشريك للحلف التركي بتضخيم هذه الصورة عبر حملة دعاية سياسيّة لأردوغان ما زالت قائمة حتّى اليوم. 
- ثم فُتحت الحدود بشكل لا يعتقد أنّه كان خلافاً لإرادة الاستخبارات الغربيّة وتركيّا  جاهل بما وصلت إليه إمكانيّات مراقبة الحدود والبشر. هذا السماح كان ممنهجاً وبتنسيق مع الاستخبارات الغربيّة التي تكفّلت بنقل هؤلاء المقاتلين من جميع أنحاء العالم وتسهيل حركتهم، مع كميات غير محدودة من الأسلحة، وتمويل وإدارة معلنين من مقرّات وأرصدة في تركيّا. كما أمّن النظام التركي استمرار تنظيم الدولة عبر تسهيل تمويلها وانتقال المقاتلين إليها وتمكينها من بيع نفطها والحصول على ما تحتاجه من إتّصالات وموارد أخرى. 

- لو أنّ هذا السلوك أفضى لإسقاط النظام أو أنّ تركيّا وحلفها فعلوا كل ما بوسعهم لبلوغ هذه الغاية لما كان هناك حاجة لكتابة هذا الكتاب ولما شككت أنّ الرواية التي اعتمدها الإعلام صحيحة. إلّا أنّ ما حدث هو خلاف ذلك. فما أن وصلت  الثورة إلى خطّ اللارجعة حتّى ظهر الوجه الحقيقي لهذا الحلف: فالهدف ليس إسقاط النظام بل خلق الأزمة. ظهر ذلك جليّاً عبر فلترة الأسلحة والسماح بدخول ما يعقّد الوضع ويزيده سوءًا، مع مراقبة صارمة لأيّ أسلحة يمكن أن تنهي الأزمة أو تؤدّي إلى إسقاط النظام.  ليس هذا فحسب، بل إنّ الفصائل التي بذل في تأسيسها وإدخالها المبالغ الطائلة ما إن بلغت الحدّ الذي يحتاجه النظام حتّى أعطيت لها الأوامر من مقارّها في تركيّا بأن تدير ظهرها لهذا النظام وتلتفت لتعقيد حياة الناس في المناطق الواقعة تحت سيطرة هذه الفصائل. هنا أكرّر تصوير المفارقة: فهذا السلوك ليس من جانب واحد بل منا جانبين متناغمين: ففي الوقت الذي فعلت هذه الفصائل ذلك مطمئنّة غضّ النظام طرفه عنها وانشغل بنفس الهدف: تعقيد حياة الناس في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، دون التعرّض لمقارّ ومقاتلي هذه المعارضة الذي كان من السهل رصدهم واستهدافهم. 
المكاسب التي حقّقها النظام التركي، ناهيك عن المكتوم والذي قبض ثمنه من الدول صاحبة المشروع أي الدول الخليجيّة والغربيّة، إلّا أن هناك مصادر عديدة أخرى أثرى فيها الإقتصاد التركي وصبّت غالباً في أرصدة العصابة التركيّة الحاكمة ومرتزقتها من الأتراك والسوريّين العاملين في الحقل السياسي والإعلامي والموجّهين لغرض واحد هو التعمية وذر الرماد في الأعين ريثما تنتهي هذه اللعبة. النظام التركي والسوري يختطفان حرفيّاً 23 مليون سوري يبتزّونهم ويفاوضونهم ويفاوضون العالم على دفع فديتهم، في الوقت الذي يستفيدون فيه من مصادر غير محدودة تتمثل أساسا في:

• احتكار تجارة شمال سوريا، بما في ذلك حركة التجارة والمعاملات المالية أو حتى المساعدات الإنسانية التي ترسلها المنظّمات الدوليّة والغرب أو السوريّون في المهجر! هذه المساعدات تصبّ في دعم الاقتصاد والبنوك التركية والمقاولين الأتراك حتّى إنّ تمّ فعلاً إنفاقها على السوريّين، علماً أنّ الحال في أغلب الحالات ليس كذلك، فهذه الأموال التي تأتي باسم مساعدات للسوريّين تبقى في البنوك التركيّة وتنفق داخل السوق التركي.
• إغلاق الحدود حيث يضطرّ السوريون الذين هم في أمسّ الحاجة للخروج من سوريا لدفع شاوى كبيرة إلى مافيا الشرطة التركية لدخول تركيا حتّى ولو بداعي العلاج أو للسفر للخارج أو حتّى للعودة لوطنهم من الخارج. 
• الأصول الصناعيّة السوريّة التي أزيلت بصورة ممنهجة، وكذلك الآثار السورية وتجارة الأعضاء البشرية للسوريين، ناهيك عن أنّ تركيّا تستضيف الآلاف ممّن سلب أموال السوريّين عبر الخطف أو السطو أو الاحتيال والكثير من الأساليب الأخرى.   
• الترحيب بالسوريين الأغنياء حصراً والسماح لهم بالعيش مع تكاليف مضاعفة ومتزايدة للإيجار والإقامة ونفقات ابتزاز متزايدة بشكل  يومي.

• أخيراً وليس آخراً ، استخدم السوريين بلا خجل ولا حياء كورقة ضغط على الاتحاد الأوربي لإرغامه على قبول تركيّا في الإتّحاد أو دفع أتاوة لحبس اللاجئين ومنعهم من الوصول للشواطئ الأوربيّة، وهذه البلطجة تتكرّر كلّ يوم لزيادة مبلغ الأتاوة ... 

اليوم أصبح ملايين السوريين في الشمال السوري رهائن لدى تركيّا. الحدود مغلقة في وجه معظم منتجات المزارعين السوريّين بعد أن سوّلت لهم تركيا بأن يمضوا في ثورتهم ووعدتهم بالانتصار لهم وعدم خذلانهم. أمّا البضائع من الطرف التركي فتتدفق دون قيود حتى لو كانت منتهية الصلاحية، رديئة أوحتّى مسرطنة. بعد أن ألقت تركيا الطعم وابتلعه السوريون في بداية الثورة أصبح لدخول تركيا تعرفة موحدة 3000 دولار. 
تستخدم تركيّا لتنفيذ هذه الخطة مرتزقة وظفتهم تحت مسميات مختلفة: إئتلاف، معارضة، حكومة مؤقتة. تختار شخوصها الاستخبارات التركية ولم ينتخبها أيّ من السوريين ولم يستشر أحد منهم بتعيينهم. تدفع لهؤلاء المرتزقة رواتب ومكافآت باهظة تثير الريبة حول الدور الحقيقي لهذه الهيئات والدور الذي تلعبه حقيقة خلف المسميات الوهمية التي تختبئ خلفها.






الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين

يتم العمل على توفيره بلغات أخرى





[1] السيناريو المصري هو الأقرب لما كان سيحدث لولا وجود تركيا في المشهد السوري



لمتابعة قناة خفايا السياسة الدوليّة:
على فيس بوك


على يوتيوب
 

طبيعة العلاقة بين روسيا ونظام الأسد


في بلد مكوّن من عشرات الطوائف والأعراق المتباينة، وحيث يتّسم الناس في كثير من المناطق بالراديكاليّة والعنصريّة ضد الغرباء أيّاً كانوا وحتّى بالفكر العشائري، لا يمكن لعائلة كعائلة الأسد أن تحكم بصورة ملكيّة وراثية شعب كالشعب السوري. 
أقول، حتّى تتمكّن هكذا عائلة من حكم شعب بهذه الصورة لا بدّ من مساعدة خارجيّة. هذه المساعدة تكمن في العمل التنظيمي والاستخباراتي وبناء الأجهزة والتدريب والاستشارة. هذه "الرعاية" تداولتها أكثر من يد في القرن الماضي، وهناك وثائق تدلّ على أنّها بدأت بالاستخبارات الفرنسيّة وكان للسي آي ايه دور جانبي قبل أن تنتهي أسوة بكثير من الدكتاتوريات المشابهة في المنطقة وغيرها من المناطق بيد الاستخبارات الروسيّة ذات الترسانة والباع الطويل في بناء أعتى الامبراطوريات الاستخباراتيّة وتدريبها والإشراف على حسن سيرها. هذه الاستخبارات التي طوّرها ستالين مركّزاً بشكل أساسي على كيفيّة حكم الجماهير، ليس فقط كأجساد بل كعقول عبر وزارات أنشأها ردّاً على وزارة البروباغندا التي كرّس لها هتلر كلّ إمكانيات ألمانيا أثناء الحرب العالميّة الثانية. من تبعات ظروف كهذه، أنّ العائلة والرئيس في هذه الحالة لا دور له في إدارة أيّ شيء. ففرصته في قول "لا" أو حتّى مجرّد التفكير بها تكاد تكون معدومة. وفي حالة الأسد، إذا كان الراعي قد تعهّد وضمن له مستقبله ومستقبل عائلته مهما كانت الأحداث على الأرض، فلماذا تفكّر عائلة كهذه حتّى مجرّد التفكير بقول "لا"؟ بغضّ النظر عن مدى جنون التعليمات، ليس لها أيّ مصلحة أو دافع لذلك، مسلّمين أنّ الأخلاقيّات لا دور لها، وهذا شيء لا حاجة إثباته هنا ولا معنى لمناقشته هنا.لم تكن الأزمة السورية في عام 2011 إلّا استنساخاً متعمّداً لما حدث في الثمانينات مع مضاعفة حجمها ومدّتها أضعافاً كثيرة.  خبراء الاستخبارات الروسيّة الذين عملوا في سوريا (وعلى سوريا) سنوات وجدوا في تجربة الثمانينات في سوريا "قصّة نجاح" يمكن استنساخها لنتائج أفضل. فهذه التجربة مكّنت نظام حافظ الأسد من السيطرة على بلد مثل سوريا (وحتى لبنان) لعقود من الزمن دون أيّ اعتراض يذكر. ونجاح هذه التجربة لن لن يقتصر على سوريّا بل سيتعدّاها إلى شعوب كثيرة بما فيها الشعب الإيراني والروسي نفسه، تلك الشعوب التي ستعاهد نفسها أن لا تكرّر خطأ أولئك "السوريّين المساكين"!

الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين
نعمل على توفيره بلغات أخرى