اقرأ أيضاً

الجمعة، 21 ديسمبر 2018

هل كان نظام الأسد ضحيّة الثورة السوريّة أم صانعها؟


سأسرد في هذا  المقال 10 نقاط (على سبيل المثال وليس الحصر) أستعرض من خلالها ما أسميته المقدّمة "السلوك المحيّر لنظام الأسد" ذلك السلوك الذي علّله الإعلام ببساطة بأنّه ناجم عن الغباء والوحشية. في هذه الحقائق أريد الخلوص إلى أنّ نظام الأسد لم يكن ببساطة "ذلك النظام الفاسد الذي كان خائفاً من الثورة وعمل بجدّ على تجنّبها، وحين اندلعت بدأ بقتل المحتجّين عليه دون هوادة". بدلاً من ذلك، تدلّ النقاط العشر التي سأسردها بشكلّ بيّن أنّ نظام الأسد سعى عامداً لإشعال هذه الثورة بالشكل الذي اشتعلت به، وقدّم لها ما يلزم ليس اعتباراً من 2011 بل حتّى قبل  ذلك.  كما أنّه لم ينقطع عبر سنيّها لإبقائها مشتعلة وزيادة حدّة أوارها ومنع نارها من الخبو، كلّ ذلك بتناغم عجيب مع ما كان يقوم به  "أعدائه المفترضين" في نفس الفترة، أي محور تركيا والدول التي تصطفّ خلفها.






في الوقت الذي كان فيه آلاف المقاتلين الأجانب يتدفّقون عبر الحدود (ولا يزالون) ترافقهم أطنان الأسلحة والمساعدات المالية وشتّى أنواع الإمدادات، كان جيش النظام السوري (ولاحقاً القوات الجويّة الروسيّة) تعمل بكامل طاقتها على تدمير المدن السورية الواحدة تلو الأخرى.
لم تعترض هذه القوات في أيّ حالة تذكر المقاتلين القادمين أو قوافل الأسلحة التي لم تنقطع يوماً من الأيام، على الرغم من أنّها كانت تنتقل عبر الحدود التركيّة وغيرها من الحدود بسلاسة وشكل مرئي. هذا ينطبق أيضاً على حركة هذه القوات المعارضة داخل سوريّا، ففي يوم واحد انتقلت 100 دبّابة وآلية مصفّحة من سرمين إلى الرقّة للانضمام لقوّات داعش بعد أن انشقّ القائد حسّان عبود عن الجيش الحرّ وقرر مبايعة  تنظيم الدولة الإسلاميّة. لم يتمّ إزعاج هذا الرتل وغيره كثير أو حتّى تهديده أو رصده عبر رحلته في سهول (لا جبال فيها ولا أودية) ولمدّة مئات الكيلومترات. 
السؤال هنا ليس فقط لماذا لم يزعج النظام هذا الرتل، بل أيضاً من أين جاءت التطمينات لهذا الرتل أن يسير هذه الرحلة وهو مطمئنّ أن لن يتمّ إزعاجه لا من النظام ولا من أيّ قوّة إقليميّة أو عالميّة أخرى؟ لا سيّما أنّ المشهد تكرّر مرّات عديدة كيوم تحرير مدينة إدلب مثلاً كما سآتي على هذه الحالة في ما بعد.

2. بمجرد اندلاع المظاهرات ، أفرج النظام عن الآلاف من المعتقلين الذين كان قد تمّ احتجازهم سجني صيدنايا وتدمر. هؤلاء السجناء تمّ "طبخهم" على مدى سنوات (في بعض الحالات لعقود) قبل إطلاق سراحهم. هؤلاء السجناء شكّلوا معظم جسم المعارضة السياسيّة والعسكريّة سواء المتشدّدة كأحرار الشام وجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلاميّة، أو المعارضة السياسيّة في اسطنبول والخارج بشكل عام. 

3. النظام شجّع الحركات المسلّحة بشكل واضح وممنهج، الأمر الذي علّله الإعلام المعارض بأنّه "خوف من السلميّة وسعي لعسكرة الثورة" إلّا أنّ هذا الهدف كان يحتاجه النظام لسنة أو سنتين ثم يقمع الثورة المسلّحة كما فعل بعد سنوات طويلة، فلماذا استمرّت سياسة تسليح الثورة كل هذه السنوات؟ هذا السؤال لم يجب عنه الإعلام التقليدي. 

4. في بداية الثورة، حصل المحتجّون على كامل أسلحتهم من ضبّاط النظام السوري (في ما بدا وقتها صفقات من ضبّاط مرتشين وفاسدين). لكن أيّ شخص لديه حتى أدنى معرفة بالشأن السوري يعلم أنّه قبل عام 2011 ، لم يكن السوريّون - سواءً مدنيين أو ضبّاطاً- يجرؤون على إجراء مكالمة أو حتّى بيع سيجارة لشخص يقاتل الحكومة ناهيك عن بيع أسلحة. فعل من هذا القبيل - دون موافقة القيادة العليا وإذنها - يعني بالتأكيد أنّ فاعله سيكشف ذات يوم والنهاية المحتّمة اختفاءه وعائلته من الوجود، علماً أنّ كلّ الضباط الذين قاموا بعمليات البيع هذه يقيمون الآن في مناطق النظام ويعملون تحت إمرته وسلطته حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يحاسبهم أحد. حين تبدأ حملة بيع بهذا الشكل فجأة بأسعار وظروف موحّدة، من قبل مئات الضبّاط  والنقاط العسكريّة على امتداد التراب السوري، المعذرة، لا يمكنني أن أسلّم أنّ ذلك كان مجرّد "تصرّفات فرديّة وصفقات فساد عرضية". هذه عملية منتظمة ، بموافقة كاملة من القيادة المركزية العليا لإدارة الأسد وبإشراف مباشر من استخباراته.


5. بعد بدء المظاهرات بوقت قصير، بدأت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ببثّ وتداول ما يسمّى "مقاطع فيديو مسرّبة". هذه المقاطع في غالبيّتها كانت تسرّب بشكل شبه يومي نقاط ومفارز نظام الأسد العسكرية والأمنيّة أو من السجون والضبّاط. المقاطع كانت تركّز على جوانب حسّاسة تثير عواطف السوريّين كإهانة مقدّساتهم، تعذيبهم، النيل من أعراضهم...  باختصار، كل ما يستفزّ السوريين (عموم المسلمين في جميع أنحاء العالم) لدرجة الجنون ولا يدع أيّ مجال لهم إلّا أن يثوروا على مرتكب هذه الأفعال. حتّى للمسلمين المتشدّدين حول العالم، شكّلت هذه المقاطع دعوة لهم كي يأتوا إلى سوريا "لنصرة إخوتهم والانتقام لشرف أخواتهم المسلمات".
النقطة المهمّة هنا هي أنّ تسريب مثل هذه المقاطع أو حتى صور  بهذه الصورة ظلّ مستحيلاً عبر عقود من حكم نظام الأسد! فهذه الممارسات لم تبدأ في 2011 بل ظلّت تحدث بشكل يومي في 14 محافظة سوريّة عبر عقود لكنّ تسريب صورة منها كان يعني نهاية محتومة لمسرّبها بأفظع الميتات التي يمكن تخيّلها. وعلى الرغم من أنّ مسؤولي الأسد وإعلامييه تظاهروا بإنكار هذه المقاطع أو التقليل من شأنها، بما يوحي أنّ تسريبها كان بخلاف إرادة نظام الأسد، إلا أنّ تدبّراً بسيطاً بالأمر يثبت عكس ذلك. فهذه المقاطع كانت تصوّر من قبل أفراد في قوات الأسد يمكن معرفتهم بسهولة (وليس بكاميرات مخفيّة مثلاً) وإيقاف تسريب مثل هذه المقاطع سهل جداً على نظام الأسد إن رغب بذلك، يعرف ذلك كلّ سوري، إلّا أنّ ما حدث هو عكس ذلك، فعدد المقاطع تضاعف كمّاً ونوعاً، ودرجة استفزازها كانت موجّهة ومدروسة لدفع عجلة الثورة قدماً وزيادة حدّة أوارها.

5. من المعروف أنّ النظام حرص على منذ بداية الثورة (بل حتّى قبل بدئها) على اعتقال وتعذيب وقتل النشطاء والمفكرين السلميين والأطفال والنساء والوجهاء في كلّ بلدة أو إهانتهم على العلن، ترافق ذلك مع غضّ النظر عن تسلّح العناصر المسلّحة بل وإطلاق سراحها حتّى بعد القبض عليها.  وكما قلت، فقد علّل الإعلام المعارض هذه التصرّفات بأنّ غاية النظام منها هو عسكرة الثورة وإخراجها من طور السلميّة، لكنّ هذا الغرض جرى تحقيقه بحلول 2012 ومع ذلك استمرّ النظام بعدها 5 سنوات على الأقل باتّباع نفس الأسلوب، في الوقت الذي تعسكرت فيه الثورة بل وتأسلمت وتشدّدت، ولم يثن ذلك النظام عن وقف هذه الممارسات، ما يعني أنّ هناك هدفاً أبعد من مجرّد عسكرة الثورة  وأسلمتها. 

6. تبنّت قوات جيش النظام وفروعه الأمنيّة سلوكًا مزدوجًا في  البلاد مقسّماً على أساس العرق أو الدين أو الطائفة أو مستوى المعيشة وكون المنطقة ريفيّة أو مركز المدينة. ففي حين أنّ بعض المناطق أريد لها أن تبقى موالية وتصرّف فيها عناصر الأسد كي تبقى كذلك، في حين تمّ إرسال "الشياطين" إلى مناطق أخرى كي يتصرّفوا بعنجهية تقود سكّان تلك المناطق للانتفاض دون هوادة. تمّ تنفيذ هذه الخطة بدقّة لدرجة أنّ السوريّين الذين عاشوا معًا لعدة عقود كأصدقاء وجيران انتهوا كغرباء لا يفهم أحدهم على الآخر ولا يصدّقه. كلّ فريق منهم تشبّث بإعلامه الذي تابعه في ما يهوى سماعه، وهو بطبيعة الحال مختلف تماماً عن ما يبثّه إعلام "الكوكب" الآخر.

7. النظام امتنع عن إظهار كامل قوّته في بدايات الثورة. بل إنّه تصنّع دور الضعيف والخائف. ما شجّع الناس على المضيّ قدماً ونبذ التردّد. بعد أن اقتنعوا بأنّه فعلاً على وشك السقوط كما دأب الإعلام المعارض على تأكيده على لسان الكثير من المستكتبين ومن منحتهم الشاشات منابرها فجأة كي يتحدّثوا عبرها على مدار الساعة. نظام الأسد كمّل مهمّة هؤلاء من خلال سلوكه المرتبك والغامض. لم يبدأ استخدام البطش بالبراميل المتفجرة والصواريخ والطائرات إلّا عندما تخطّت الثورة نقطة اللاعودة وأصبح من المستحيل على المعارضين حتّى التفكير بعقد صلح مع النظام.  

نقطة اللاعودة حلّت تحديداً حين: 
• حين أصبح المقاتلون الأجانب أقوى قوة على الأرض. أنشأوا ترساناتهم ومقرّاتهم المسلّحة، وبطريقة ما انفصلوا عن السكان المحليّين ، وباتوا يعاملونهم بغطرسة ولا يلقون إليهم بالاً. 
• وحين بلغ السوريّون مرحلة متقدّمة من التعاهد على المضيّ قدماً حتّى النهاية. هذا الالتزام لم يكن بهذه الدرجة من الوضوح في الأشهر الأولى للاحتجاج. إلّا أنّ الإعلام تكفّل في هذه الفترة بتكريس هذا الموقف إمّا بالثناء على الشهداء وتقريع من تسوّل له نفسه بالمصالحة على دمائهم. قبل ذلك كان الإعلام ومن خلال العديد من المسلسلات التي حازت شهرة هائلة قد هيّأ السوريين لتبنّي هذه المواقف من خلال شعارات مثل "الموت ولا المذلّة" و "لا تصالح" (الزيرسالم) أو "شكلين ما بحكي" (باب الحارة) إلخ.    
8. قام النظام بالسماح للمعارضة بالبقاء قريبة من مراكز المدينة دون التعرّض للنقاط التي كان يتمّ منها إطلاق قذائف بآليّات بدائيّة وبصورة شبه يوميّة. هناك رواية تقول أنّ هذه القذائف كان يطلقها النظام نفسه. وأيّاً كانت الرواية الصحيحة، فقد كان من السهل جداً على النظام أن يدمر النقاط التي أُطلقت منها هذه القذائف التي كانت تفتك وتزرع الرعب في سكّان المدن وكانت تركّز بشكل خاصّ على أحياء الأقلّيات كالمسيحيين وغيرهم. ظلّ هذا المشهد على هذا المنوال حتّى حين كان طيران الأسد وحليفه الروسي يقومان بآلاف الطلعات على بعد مئات الكيلومترات دون التعرّض لهذه النقاط التي تبعد عنهما مئات الأمتار فقط. 
اتّباع هذا النهج ضمن للنظام ولاء هؤلاء السكان والتصاقهم به  ضدّ المعارضة، وأصبحت كلمات مثل "الحرية" أبغض كلمة يمكن أن يسمعها السكّان لأنّها ارتبطت بأذهانهم بمعاناة ومآسي يوميّة تذكّرهم بمن فقدوهم من الأبرياء ومن أحبّتهم.

خلاصة:

ما أردت أن أخلص إليه عبر الاستعراض السابق، هو الحكاية السوريّة لا يمكن أن تختزل بـ"نظام فاسد خائف من الثورة وعمل بجد على تفاديها، ثم بدأ في قتل الناس على نطاق واسع وبوحشية عندما اندلعت"، وهو الشرح شبه الوحيد لما حدث ويحدث في سوريّا. فهذا النظام سعى عمداً لدفع هذه "الثورة" للبدء وأعطاها كلّ ما تحتاج ثمّ دأب على العمل بجدّ لإبقائها مشتعلة وضمان عدم خبو أوارها، كلّ ذلك بتناغم كامل وعمل مواز لما كان يقوم به المحور المقابل، أي محور تركيّا ومن وراءها، وهو ما سأفصّله في الفصل التالي. 
على أيّة حال، وبعد 8 سنوات من كل أنواع التحليلات والتنبّؤات، يبدو أن الأسد لم يكن يتصرّف على عواهنه، بل كان يعي ما يفعل، وأولئك الذين يوجّهونه للقيام بما قام به سواء كانوا مستشاريه أو أسياده وآمريه كانوا على دراية بما يقومون به. فالأسد ما زال "على سرج خيله" كما يقول التعبير السوري، والمسرحيّة بدأت عرض مشاهدها الأخيرة التي -على ما يبدو- مقتل الرئيس أو تركه للسلطة لن يكون ضمن مشاهدها، بل على العكس، يبدو أنّه يجري إعادة تأهيله داخليّاً ودوليّاً. وما حصل في السنوات الماضيّة ضاعف فقط ثروته وثروات عصابته ومرتزقته، بعد أن تخلّص ممّن وصفهم بالعناصر "غير المتجانسة" من شعبه الذي ما يزال ملتصقاً بالشاشات يتابع يوميّاً من دول اللجوء مفكّرين ومتحدّثين يحكون لهم حكايات عن سقوطه الذي أصبح "وشيكاً ومحتّماً".


أمّا الدول التي زعمت ومثّلت دور الساعي للإطاحة بهذا النظام، فقد ثبت أنّها لم تكن تنوي حقّاً فعل ذلك. لقد كانت مساعداتهم تهدف إلى بدء الاحتجاج، مع اتّخاذ كلّ الضمانات أن لا تفضي هذه الثورة إلى إسقاط النظام. وفي الوقت الذي بسّطت وسائل الإعلام مقتنعة الأمر على أنّه بضعة آلاف من الأخطاء التي ارتكبتها هذه الدول الساعية لإسقاط النظام، وعلّلت الفشل بأنّه نتيجة الحقائق التي "تفاجأت" بها استخبارات دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى والبلدان التي تتلقّى تعليمات مباشرة من هذه الدول كتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر وهلم جرا.) وكأنّ سياسيّي هذه الدول وأجهزة استخباراتها هواة في طور التدرّب مقابل نظام خبير وعريق في العمل السياسي والاستراتيجي.  وفي حين أنّ متابعي الإعلام التقليدي اقتنعوا بذلك، ليسامحني القارئ إن لم أستطع التسليم به بهذا البساطة، فلست مستعدًا من الناحية العقلية لأخذ نكات كهذه على محمل الجد، خاصّة إذا كانت هذه النكات تروى على مذبح ملايين الضحايا الذين نعاين مأساتهم صباح مساء. 


الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين

نعمل على توفيره بلغات أخرى








لمتابعة قناة خفايا السياسة الدوليّة:
على فيس بوك


على يوتيوب
 

هناك تعليقان (2):

  1. أتوجه بالشكر لصاحب المدونة ، لانني ارى في موادها ما يتقاطع مع رؤيتي لمأساة اهلي في سوريا ، ولانني اشعر انني الوحيدة بين كثيرين جدا ممن يكتبون حول المأساة ولا أجدهم يقتربون من تشخيصها بشكل مقنع او مطقي .
    أعتقد ان كل من تابع مسار الامور وكان خارج الاخزاب وخارج الايديولوجيا يستطيع ان يصل ال هذه الخلاصة .
    شكرا مرة اخرى

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لمرورك وتعليقك أختي الكريمة وأرحب بمساهماتك في المدونة وصفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. تحياتي لك

      حذف