اقرأ أيضاً

الأحد، 5 أغسطس 2018

لماذا المأساة السورية مختلفة عن أيّ مأساة أخرى شهدتها الإنسانية



عندما أسمع كلمة "حرب"، يتبادر إلى ذهني بعض المشاهد المجيدة. الحرب قد تكون تلك المعارك التاريخية حيث يلتقي قادة وشباب مفتولي العضلات لاستعراض شجاعتهم ورجولتهم، وحيث يجتهد القادة لإظهار دهائهم وحنكتهم. معظمنا استمتع بمشاهدة أفلام عن هذه الحروب، وحكى للأطفال قصصاً عنها، محفّزاً إياهم أن يقتدوا بأبطالها. في هذا المعنى أجد كلمة "حرب" رومانسية للغاية عند محاولة وصف ما يحدث في سوريا. في هذه المأساة ، لم يتمّ استعراض أيّ مهارات سوى تدمير المستشفيات والمدارس فوق رؤوس المدنيين والأطفال وإحالتها إلى ركام وأشلاء. 
قادة الأطراف المتصارعة بالكاد التقوا وبالكاد خسروا. معظمهم خرج من الحرب بأمان بثروات فاحشة وأرصدة مكدّسة. في الوقت الذي هجّر فيه الملايين من المدنيين وخسروا، ليس فقط ما امتلكه جيلهم، بل ما ورثوه من الأجيال السابقة. لا يمكن إحصاء حالات التعذيب، لا يمكن حصر عدد الأطراف التي بترت والرؤوس التي قطعت والأعين التي فقئت.
لم تكن هذه الحرب مصمّمة للفوز بشيء ما. الحربّ صمّمت لانتاج أكثر المآسي عمقاً تاريخ البشرية.

ليس عدد الضحايا ما جعل هذه المأساة واحدة من أبشع الحروب في التاريخ، ففي التاريخ كان هناك حروب بلغ عدد ضحاياها أضعاف عدد ضحايا الحرب السوريّة. ما ميّز الحرب السورية  أنّها حدثت في وقت كان من المفترض فيه أن يكون العالم قد بلغ سنّ الرشد، وبعد أن أوجد أنظمة قانونية دولية ناضجة تشرف على تنفيذها حكومات ومنظمات تجعل حدوث مثل هذه الحرب غير ممكناً على كوكب الأرض. مجازر رواندا أو كوسوفو حدثت في وقت كانت الإنسانية في "غفوة". تغيّر الزمن  وأصبح المجتمع الدولي ناضجاً بأخلاقيّات واضحة بما يكفي لجعل مثل هذه الحالات موجودة فقط في كتب التاريخ. هذا على الأقل، ما اعتقده السوريّون (أو أنّ هناك من قادهم لهذا الاعتقاد؟).

المتظاهرون الذين خرجوا بالملايين إلى الشوارع محاولين إسقاط أحد أكثر الأنظمة فساداً وإجراماً في العالم كان لهم أسبابهم الكافية لفعل ذلك. كما أنّه كان لديهم أسباب كافية للامتناع عن هذه الخطوة مدّة عقود قبلها. السوريّون لم يكونوا جاهلين بمستوى أخلاقيّات نظامهم (أو بالأحرى -لا أخلاقيّاته- )، فقد خبروا وحشيّة هذا النظام وإجرام حلفائه اللا محدود منذ وقت طويل. كما أنهم لم يكونوا أغبياء ليخطؤوا حساب ترسانته العسكريّة القادرة على إفنائهم وتدمير سوريا بالكامل. خطوتهم هذه اتخذوها اعتماداً النضج المزعوم للمجتمع الدولي الذي تحدّثنا عنه. كما أنّ هذا القرار لم يكن قرارهم بالكامل، فقد تدخل في تعجيله وحرف مساره الكثير من الأحداث الموازية في الإعلام وعلى الأرض. من المهمّ جدًا أن نتذكّر هنا أن ثقة السوريين العمياء بنضج المجتمع الدولي لم تأت اعتباطاً. لقد تمّ العمل على تضليلهم بتقدير هذا النضج بشكل ممنهج ومدروس ومخطّط.  وهذه النقطة مهمة للغاية لفهم ما حدث بالضبط.
التصريحات الواضحة والوعود الممنهجة بعدم الخذلان التي أطلقها وكرّرها عبر سنيّ الأزمة رؤساء مثل أوباما وأردوغان والقادة الأوروبيين لم تكن عفويّة أو بالصدفة، لا سيّما أنّها ترافقت بعمل مكثّف على الأرض. إنّ تتبّع هذه التصريحات بشكل علمي يثبت أنّ هذا السلوك لم يكن بريئاً ولم يأت بشكل غير مقصود، سيّما أنّه أعيد وتكرّر عبر سنوات وتكفّلت بتكريسه أجهزة إعلام ووسائل دعاية سياسيّة ممنهجة. 


هل ما حدث إذاً كان "مؤامرة" ضد النظام السوري؟

هنا الجزء المحيّر من القصة: نظام الأسد كان جزءاً أساسيّاً من هذه "المؤامرة"، بل هو المنفّذ الرئيسي لها بدل أن يعمل على إحباطها أو تجنّبها. كلّ أفعال النظام وردود أفعاله قدّمت لهذه المؤامرة ما تحتاجه كي تمضي إلى نهايتها وتحقّق مهمّتها. 
الإعلام التقليدي دأب على تفسير سلوك الأسد هذا بأنّ سببه ببساطة "فاشية" هذا النظام و "ساديّته" و"غبائه السياسي". وهذا شرح يحقّ لكلّ شخص أن يصدّقه ويتبنّاه وهو ما لم أستطع فعله. فهذا التفسير ليس كافياً ولا منطقيّاً. فبشار الأسد ليس هو اللاعب الوحيد في هذه اللعبة ولا هو الدكتاتور المنفصل عن أيّ حلف أو قوّة أخرى حتّى يترك ليتصرّف كما تملي ساديّته. رواية كهذه يمكن أن تكون صالحة للعصور الوسطى. أمّا في عصرنا، عصر الأحلاف، فنظام مثل نظام الأسد مرتبط بأكثر منظّمات الاستخبارات قوة وخبرة في العالم ونظامه جزء من نظام دوليّ. أرباب هذا النظام لن يضعوا مصير إمبراطوريّتهم رهن غباء دكتاتور أو عنجهيّة أتباعه، مالم تكن هذه العنجهيّة موجّهة ومقصودة. إذاً، أنا أزعم أنّ كل هذا العنف والإجرام تمّ  بشكل مقصود. ولكن لأي غرض؟


هذا ما شرحته مفصّلاً في الكتاب وسأحاول شرحه في منشورات هذه المدوّنة.

الكتاب يحتوي على نوعين من المواد: الحقائق والنظريّة.
وبالطبع كلا المادّتين متصلتين ببعضهما ومشتّقتين من بعضهما البعض.

1. الوقائع الموصوفة في هذا الكتاب شهدتها بشكل شخصي. ومع ذلك، فقد حاولت قدر الإمكان الاستشهاد بمصادر خارجيّة لتدعيمها.
هناك معضلة تتعلق بالمراجع في زماننا: فالقرّاء يختلفون حين  يتعلق الأمر بالمصادر التي يصدّقونها أو يرفضونها. البعض يقبل بمصادر من وسائل الإعلام الغربية فقط، في حين يكذّب الآخرون كل خبر تورده هذه المصادر. إنّ إيراد كلّ أنواع المصادر سوف يضيف مئات الصفحات إلى الكتاب والمدون ويحشيهما فقط بمعلومات يمكن للمستخدم العادي الوصول إليها بسهولة عبر العديد من الوسائل. هنا أنا لا أطلب من القارئ أن يقبل شهادتي أو مصادري، بل أدعو القارئ أن يقف موقف المتشكك وتحرّي صحّة أي معلومات تبدو له مريبة (في الحرب السوريّة حصلت كثير من الأمور التي لا تصدّق). لحسن الحظّ أنّه في عصرنا أصبح من الميسور أن يبحث ويتحرّى المرء عن أيّ معلومة من مصادر دقيقة جدّاً. فالقارئ يمكن أن يستخدم الانترنت للبحث، ويمكنه التحدث إلى أشخاص على الأرض أو عايشوا الأحداث بشكل مباشر. 
2. أمّا الجزء النظري من الكتاب فهو محاولة شرح الجزء المتعلّق بالحقائق. هذا الجزء بني على الحقائق وجاء لاحقاً لها بعد أن أصبحت التفسيرات التقليديّة عاجزة عن شرح المعضلة السوريّة وغير كافية لأن تجيب عن كلّ أسئلتها وتناقضاتها.  
هنا أودّ أن أؤكد أنّني لست معجبا بأي نظرية من النظريّات المتداولة بما فيها ما يسمّى نظريّة المؤامرة. وقد دأبت (بين عامي 2011 و2013) على قبول الرواية التي اعتمدتها غالبيّة وسائل الإعلام لما يجري في سوريا أي أنّ ما يحدث هو ببساطة "ثورة حريّة ضد دكتاتور يحاول البقاء على كرسيّه بأيّ ثمن". أو في أفضل الحالات ، "صراع على النفوذ بين معسكر الغرب ومعسكر روسيا وإيران".
عند نقطة ما (في منتصف 2013 تحديداً) لم يعد أيّ من هذه الروايات صالحاً للإجابة عن جميع الأسئلة. كان من الممكن التغاضي عن ذلك وغضّ النظر عن التناقضات، والكثير بالفعل فقل ذلك، وتابعوا الرواية التي تتلى عليهم منذ ثمان  سنوات. وقد حاولت أن أحذوا حذوهم في ذلك، لكنّني فشلت. احترام المثقّف لعقله، صور الضحايا اليوميّة من الأطفال والأبرياء، واجب الإنسان العاقل في تحرّي الحقيقة والبحث عنها، كلّ ذلك لم يترك لي فرصة لإبقاء عيني مغلقة. كان علي أن أبحث أعمق وأعمق.

إذا كنت قد طلبت من القارئ أن يتحرّى أيّ حقيقة في الجزء المتعلق بسرد الحقائق، فسأطلب منه في الجزء المتعلّق بالنظرية  أكثر من ذلك: أن يسعى لنقض هذا التفسير ومناقضته لكن بشرط واحد: أن يبني مناقضته بعد التدقيق في الحقائق المسرودة وسأكون ممتنّا أي شرح أكثر منطقيّة للحقائق، شرط قراءة كامل الجزء المتعلّق بالحقائق أوّلاً قبل الركون إلى أيّ شرح مبسّط من الشروحات التي قدّمها الإعلام. 



***

في كتابه القيّم "تدمير وطن" يطرح السفير السابق الدكتور توماس فان دام السؤال التالي: هل كان يمكن تجنّب وقوع الحرب السوريّة؟
ويخلص إلى استنتاج بحسب رأيه هو، أنّه حتّى ولو أمكن تجنّب وقوعها في 2011 أو تأجيلها إلى حين، فلا بدّ أن تقع يوماً بسبب التناقضات وفساد النظام وعوامل أخرى. لكنّ السفير أغفل الحديث عن مقدار الخسائر والضرر في معرض الحديث عن السيناريوهات المحتملة. برأيي الشخصي أن السيناريو السوري كان أشبه ما سيكون بالسيناريو المصري، وهو بالمناسبة شبيه جداً بسيناريو الثمانينيات. ففي السيناريو المصري أمكن للنظام أن يسقط ويناور ثم يستعيد مركزه بعد عزل العناصر المتحمّسة للثورة وتصفية جزء منها بوحشيّة في ما سمّي مجزرة رابعة (حماة في حالة الثمانينيات السورية) ليعود بعدها النظام بعد ترنّح وبعض التوعّكات في الاقتصاد والجوانب التنظيميّة للبلاد. أنا هنا لست معجباً ببقاء الأنظمة أو بفشل الثورات. لكنّ الدول التي صنعت الفرق بين السيناريو المصري والسوري هي التي حالت دون سقوط النظام كما أنّها حالت دون انتهاء الأزمة بالصورة المصريّة. أي أنّ دورها اقتصر على حذف خيار عزل وتطويق الثورة بأقلّ الأضرار، فكان يعني إنهاء الثورة استئصال الشعب بأكمله لأنّ هذه الدول ضمنت فقط استشراء الثورة ووصولها خطّ اللارجعة لتقطع بعدها مساعداتها وتوقف زخم دعمها وتترك الشعب لوحده أمام نظامه الذي لا يتقن سوى لغة البطش والانتقام. 





الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين
نعمل على توفيره بلغات أخرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق