اقرأ أيضاً

السبت، 1 سبتمبر 2018

وصفة الأسد للبقاء في السلطة


في هذا الفصل، سأستعرض بعض الأساليب التي استخدمها نظام الأسد والتي ضمنت بقائه في السلطة رغم صعوبة تحقيق ذلك من قبل أسلافه كما يخبر به تاريخ سوريّا الحديث.

أولاً: استنساخ الأجهزة الأمنيّة 

ورث حافظ الأسد عن أسلافه بعض الإدارات الأمنيّة، في حين قام باستنساخ إدارات جديدة لمضاعفة عددها. الإدارات الرئيسيّة التي كان لكلّ واحدة منها فرع في كلّ محافظة، ناهيك عن مفارز في المدن الكبرى هي:
• مديريّة المخابرات العامة (أمن الدولة) والتي تمّ إنشاؤها بعد أشهر قليلة من وصول حافظ الأسد إلى السلطة.
• المخابرات العسكرية والتي تأسّست عام 1969 حين كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع في ذلك الوقت. تعود جذور تأسيس هذه الإدارة إلى فترة الانتداب الفرنسي (1923-1943).
•" إدارة الأمن السياسي. وظيفتها المعلنة هي مراقبة أمارات الأنشطة السياسيّة المعارضة. يتداخل دورها إلى حد ما مع إدارة الأمن العام التي تعتبر وكالة الاستخبارات المدنية الرئيسيّة في البلاد. وللأخيرة أيضاً قسم أمني خارجي يعادل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالإضافة إلى شعبة فلسطين التي تشرف على أنشطة الجماعات الفلسطينيّة في سوريا ولبنان.
• "إدارة المخابرات الجوية، وهي مرتبطة بالاسم فقط بالقوات الجوية، إلّا أنّ دورها كأكبر وأقوى وكالة مخابرات في سوريا يتأتّى من حقيقة أنّ حافظ الأسد كان في يوم من الأيام قائداً للقوات الجوية قبل أن يجعل من جهاز المخابرات الجوية مكتب عمله الشخصي. قامت هذه الإدارة بدعم الكثير من العمليّات الإرهابيّة خارج سوريا، بالإضافة إلى عملها الاستخباراتي. "


قد يتوقّع كل قارئ أن يكون هناك نوع من توزيع الأدوار بين هذه المديريات، إلّا أنّ الأمر ليس بالضرورة كذلك. فجميع هذه المديريّات أعطي سلطات غير محدّدة لمراقبة ورصد كل ما يحدث والتحقيق فيه. على سبيل المثال ، لم يكن دور "شعبة فلسطين" مراقبة "أنشطة الجماعات الفلسطينية في سوريا ولبنان" وحسب. هذه الشعبة معروفة بأنّها أكثر مراكز التعذيب وحشيّة والتي قامت باعتقال وتعذيب آلاف السوريّين وغير السوريّين ممّن لم يكونوا بالضرورة على صلة بفلسطين أو لبنان. 
برأيي، الهدف من إستنساخ هذه المديريّات بمسمّيات مختلفة ووظيفة واحدة هو توظيف جهات متعددة ومنفصلة لمراقبة ليس فقط تحرّكات المواطنين والأجانب ونشاطاتهم، بل لتسليط هذه الإدارات لتراقب بعضها بعضاً وترصد أيّ تهديد محتمل لسلطة النظام.
كل ضابط أو مدير في هذه المديريات يمكن أن يصبح ضحيّة لتقارير يكتبها عنصر صغير في مديريّة أخرى. بهذه الطريقة ، تمكّن نظام الأسد من تقليل إمكانية حدوث أيّ انقلاب أو تمرد إلى ما يقارب الصفر. فكما أنّ هذه المديريّات أنشئت لإرهاب المواطنين، قامت أيضاً بإرهاب بعضها البعض. 




اختراق المعارضة أبكر ما يمكن

هذا هو التكتيك الثاني الذي طوّرته أجهزة الاستخبارات في العصر الحديث لاستكمال سيطرتها على الأمم، وهي خطوة متقدّمة عن الأساليب السابقة التي تكتفي بالمراقبة. في هذا التكتيك لا يتمّ الانتظار حتى تنشأ المعارضة ليتمّ مواجهتها، بل تتنبأ الأجهزة الأمنيّة بظهور الحركات وفقاً لحركة الشارع ومزاجه وتقوم باختراق الحركات المحتملة قبل حتّى أن تتشكّل. بعبارة أخرى: تصل قبلها. في كلّ حركة تمرّد أو معارضة محتملة، يجب أن يكون هناك عملاء من داخل الحركة نفسها، وفي أغلب الأحيان، هؤلاء العملاء المزدوجون يلعبون الدور الرئيس حتّى في تشكيل التمرّد وانطلاقته. عبر سنيّ الثورة السورية، ظهر للعلن الآلاف من هذه الحالة. بعضهم كانوا من قادة الحراك ومحرّكيه الرئيسيّين. 

في أكثر مراحلها تقدّماً، بدأت أجهزة الاستخبارات بإنشاء حركات وفصائل في موازاة الحركات التي قد تنشأ بشكل طبيعي. وعبر اصطناع العداء لهذه الحركات المصطنعة، تحظى هذه المعارضات بشرعية أكثر من نظيراتها. بهذه الطريقة تتمكّن أجهزة الاستخبارات من إضعاف المعارضات الحقيقيّة لصالح معارضات تصطنعها أو تخدم سياساتها حتّى لو كانت هذه المعارضة غير عالمة بخفايا اللعبة وتمارس دورها على سجيّتها. تقوم وسائل الإعلام التابعة للاستخبارات بتضخيم دور هذه المعارضة على حساب غيرها باصطناع دور العداء والخوف منها وإحاطتها بهالة، كما تقوم بإضعاف منافسيها عبر التقليل من أهميتهم أو صرف الأضواء عنهم أو طمس ذكرهم بالاعتقال أو الاغتيال. مؤدّى هذا التكتيك هو: نشوء معارضة أمر لا يمكن تفاديه، دعونا إذن نخلق معارضة نتحكّم بها، ونقلّل بها من شأن بقيّة الحركات التي نملك سيطرة أقلّ عليها أو لا يتّفق وجودها من أجنداتنا. 

هذه طريقة شائعة تطبقها تقريبا جميع وكالات الاستخبارات الدولية. خلال هذا الكتاب ، سأذكر في ثنايا الكتاب أمثلة كثيرة على هذه التقنيّة التي تمّ تطبيقها عدد غير محدود من المرات من قبل الاستخبارات السوريّة، العراقيّة، الخليجيّة والغربيّة.



غسيل الأدمغة

التقنية الثالثة التي أمّنت حكم آل الأسد وساعدته في تثبيت منظومتها الاستخبارات الأجنبيّة، لا سيّما الروسيّة هي إنشاء منظومة متكاملة تتحكّم بالعقل الواعي واللاواعي للجماهير وتهيمن على تفكيرها. لن أسهب في شرح ذلك لأنّ ذلك يحتاج لكتاب منفصل لكنّ كل من عاش في دولة تتبع المعسكر السوفييتي لديه فكرة عن الوسائل التي عمّمها الاتحاد على الدول التابعة له. 
كان النظام السوري هو المتحكّم الوحيد بمصادر الإعلام بكافة أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئيّة. صور "القائد الرمز" وأقواله "الملهمة" يجب أن تكون في كلّ مكان، على الجدران ، على الصفحة الأولى لكلّ كتاب مدرسيّ أو صحيفة يوميّة.  

وحشية النظام في أحداث حماة عام 1982 أمّنت عنصر الخوف المطلوب لإبقاء السوريّين بعيدين عن أيّ نشاط سياسي معارض. هذا التكتيك تمّ تطبيقه تقريباً في جميع الدول التابعة للإتحاد السوفياتي، أي: استخدام مفرط للقوّة بأحداث محدودة وفترة قصيرة تضمن ابتعاد الجماهير عن معارضة نظام الحكم لعقود. مقولات من قبيل "السياسة نجاسة" و "لا تقول كان، الحيطان لها آذان" تلخّص العقليّة التي نجحت أحداث حماة في زرعها في عقول السوريّين وحرص الآباء على تلقينها لأبنائهم منذ نعومة أظفارهم. فمن ذا الذي يودّ أن يختفي ابنه في غياهب سجن يتمنّى فيه الموت فلا يطاله؟ لذا بدا خيار تربية الأطفال على "حب الوطن وسيد الوطن" أسلم. 
بغضّ النظر عن عدد الضحايا في أحداث الثمانينات وما حدث بالضبط ومن كان القتلة، المهمّ أنّ الشائعات التي تمّ نشرها عن ما حدث أمّنت تدجين السوريّين أربعة عقود كاملة ومنهم من ما زال وما بدّلوا تبديلاً. 
الخذلان الدولي للشعوب سواء السوري أو حتّى اللبناني كرّس نظرة السوريّين وقناعتهم أنّ هذا النظام لا قاهر له بل لا حقيقة سواه. فالعالم الذي تواطأ مع هذا النظام ضد اللبنانيّين والمدنيّين السوريّين ضارباً بكلّ الاعتبارات الديمقراطيّة والحقوقيّة بل حتىّ الدينيّة والاستعماريّة عرض الحائط زاد في قناعة السوريين بأنّ هذا النظام ورأسه ليسوا من الإنس بل وحوش لا يمكن القضاء عليها وبدؤوا بالاقتناع أنّ عائلة الأسد مؤيّدة بقوى خفيّة وتحمل صفات تفوق ما يمتلكه البشر العاديّون.


حين جاءت ثورة الإنترنت والمستقبلات الفضائيّة والقنوات ومصادر المعلومات اللامحدودة كان الوقت متأخّراً جدّاً لاسترجاع ما ضاع من وعي الجماهير السوريّة. فبحلول عام 2003 كان الأسد قد حصل على جيل مغسول الدماغ بالكامل. ومهما كان أثر ثورة المعلومات عظيماً لم تستطع إصلاح ما أفسدته دهور الطغيان، فكيف إذا كانت هذه المصادر قد اختطفت من جهات مالأت الأسد ودعمت مركزه؟ حتّى حين أفلت جزء من الشعب من براثن التضليل، ظلّت الأغلبية ضحيّة ذلك التضليل إمّا مكرهة أو بطوعها لأنّها ألفت وضعاً وحياة لا ترغب في قلب موازينها. 
ومع ذلك، كان هناك شعور متزايد لدى الجهات التي تدعم الطغاة أنّ هناك ثقباً في الإناء وأنّ الأمور لا يمكن أن تبقى هكذا لمدّة طويلة. لذا لا بدّ من فعل شيء ما لتدارك التسريب وتعويض النقص، وهو ما قامت به فعلاً بعمليّة معقّدة أفضت إلى ما نراه اليوم، وهو ما سأشرحه في بقيّة فصول هذا الكتاب.


الكتاب متوفّر حالياً على موقع الأمازون باللغتين الألمانية والانكليزية 
يتمّ العمل على توفير بلغات أخرى 
يمكن مشاركته مع القراء بهاتين اللغتين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق